مفرق 48 ، مشاهدة من عيون امرأة

spoiler alert – يحتوي هذا المقال على مقاطع تكشف بعض احداث الفيلم

تعابير لا يفهمها الا أهل البلد او من قضى معهم سنوات طوال ، تحولت اللغة اللداوية خلال 68 عاما من النكبة لخليط من العبارات والإشارات والحركات ممزوجة ببعض كلمات عبرية من العامية التي احضرها القادمون الجدد من بلاد الشرق والغرب ليستوطنوا في اللد .

دمجت العبرية في أغاني الفيلم الأولى وذابت رويدا رويدا مع صقل هوية البطل (كريم) الوطنية الفلسطينية بيد سيدة الفيلم ( منار)، فكانت أغنيته الأخيرة عربية حتى النخاع فيها يسبح تامر نفار في بحر ابعد من بحر درويش ، فأراد بأغنية الخاتمة (يا ريت) ان نصير شعبا تتغزل شاعرة بجسد راقص دون خوف بائس. وان يكتب كاتب عن الشرف بمنظور امرأة بعيدا عن الذكورية العالقة في جسد أنثى. لنتحرر جميعا من عقدة التهجير ونعود معا للوطن الضائع فينا، نكمل بعضنا بعضا ولا ندفن أحلامنا مع ضحايا الاحتلال والقمع.

لا ادري كيف أتقن اودي الوني يهودي الأصل، فلسطيني المبادئ، إخراج فيلم يعتصر من المشاهد فلسطينيا او إسرائيليا ، العربي والأجنبي مشاعر الغضب البشري المتجسد بما تفعله آلة الحرب والكبت السياسي ، مقبلا وفي جعبته الفقر، الجريمة ، العنف ، المخدرات ، هدم البيوت وكل وسائل التفكيك المجتمعي الناجعة في بقجة واحدة ، وضعت أمام بيت فلسطيني قديم في اللد المنسية .

ملحمة انسانية معقدة

الفيلم ينحت في صخر المجتمع الفلسطيني ملحمة إنسانية معقدة أنتجت ركاما هائلا من الدمار الاجتماعي الخانق للثقافة ، الحضارة والنماء، ومع ان الخصوبة السامة التي خلفتها دولة إسرائيل بنت دفيئة كبيرة للعنف والجريمة في المدينة الجميلة في قلب فلسطين .

هناك بين البيوت الصغيرة والمتواضعة في حضن عائلة محبة وداعمة نبتت بذورا من نوع آخر ، اختمرت في دفء أمل وحلم متجسد في قصة مغني راب صاعد ، انطلق من حطام مدينته ومن على أنقاضها غنى للعالم بأعلى صوت ، مفرق 48! هو فيلم عن المقاومة القوية الناعمة بأداة حادة ثاقبة تخترق النفوس والعقول قبل الأبدان وهي أداة الفن .

يغزل الفيلم قصة ‘الحب في زمن الراب‘، في مطلع هذا القرن من زمن القضية الفلسطينية ، من الطرف الآخر للجدار هنا في قلب دولة إسرائيل من اللد حيث يجمع الفيلم كريم (تامر نفار ) مع منار (سمر قبطي ) متبل بشغفهما احد بالآخر من جهة وشغفهما كزوج بموسيقى الراب والغناء .

يحلم كريم بإنشاء فرقة راب مشهورة مع أخيه وأصدقائه ومعهم حبيبته ، تلك الفتاة الثورية الجامحة التي لا تريد ان تضع بأي قالب جندري ، عائلي، اجتماعي او ديني . تعيش منار التناقض النسوي الذي يلوع النساء الفلسطينيات في الداخل الإسرائيلي في العقود الأخيرة، تتعلم في الجامعة نهارا وتقبل رفيق دربها سراً، تخرج لتسهر بالملاهي الليلية وترجع كسيندريلا قبل منتصف الليل متحججة بأي سبب. تعمل وتكسب قوتها بنفسها وشبح ابن عمها يلاحقها. وفي شقتها الصغيرة تتنفس وترقص وتغني وتبعثر شعرها لكل اتجاه وتخرق انفها بأقراط فضة قديمة، وفي بيت أهلها تحاول ان تلعب دور الفتاة المكبلة كما يريد والدها ان تكون.

تكون هي من تحول كريم من شاب عابث إلى رجل حالم وجريء ، من مغن ضائع خلف فرص الظهور في ملاه يهودية منتشية من جرع العنصرية والمخدرات ، لرجل يعرف ما يريد ولا يهاب ان يتألم ويضرب ولكن لا يتنازل ، اكتشف كريم مع منار معنى الحياة والمعاناة والكفاح اللا متناهي ليصل الى منصة ثابتة وقوية تتحمل ضربات قدميه الراقصتين وموسيقاه الصاخبة وكلماته العابثة بكل شيء .

موهبة جديدة
جسّد تامر نفار قصة حياة واقعية مستوحاة من حياته الشخصية بإتقان ودقه لا يعرفها غير من عاشها ، نجح تامر ان يكشف أمامنا موهبة جديدة كانت مخبأه لسنوات ، فقد لعب دورا صعبًا ومركباً بحرفية مفاجئة امام كاميرا اودي الوني الصارمة ، مع أدق التفاصيل مثل تطور أجهزة الخليوي والسيارات والملابس والموسيقي الرهيبة ادخلنا الى قصة تحدث في مطلع هذا القرن يقصها علينا تامر كأنه يجلس في صالون بيته المتواضع ، متصفحا البوم صور تاريخية وآنية لحياة شاب من اللد، فهنا يهدم بيت صديقه وهنا يقتل رفيقه وهنا يتوفى والده بحادث طرق ، وهناك امه التي تقلب حياتها رأسا على عقب كقدر المقلوبة اللداوية في المشهد الأول من الفيلم ، لتتحول بعد ان شلّها الحادث من أمرأة شيوعية لامرأة تمسح بطاقاتها السرية والنسوية الآلام والعذاب من نفوس المحتاجين لخدماتها الروحانية ، أزعجني هذا التحول من النقيض الى النقيض ، لم اعرف ان أعطيه مكانا واضحا ومحبوكا في قصتنا المركبة أصلا ، ومع إعجابي بأداء سلوى نقارة لدور الأم، كنت أودّ ان أريح هذه السيدة الجميلة ام كريم من أعباء المدينة ومصائبها وعلاجاتها وسحرها، فان دورها بعد ان فقدت زوجها حبيبها ، كأم كريم وصديقة منار وعامود الدار المتدحرج في كرسي الإعاقة كان كافيا ليضفي لونا جميلا على فيلمنا الرائع .

منار وام كريم من قبلها هما كقصص نساء كثر في بلدنا الحبيب هذا ، تصل المرأة إلى حافة القرار ولا تأخذه ، فمن كانت حرة في عقلها لا تستطيع ان تكون أمة في أفعالها، ويطلب منها أن ترجع خطوة للخلف ، فمنصة العرض ليست للنساء ، هناك اذا صعدت قد تفقد عائلتها السيطرة عليها ، وهناك إذا غنت قد تتفوه بما منعت من قوله النساء في بلادنا وإذا خرجت من القمقم فلن تعود ماردة الحب والحريّة اليه أبدا. كريم صعد للمسرح وحيدا ، وانتظر منار ان تقرر ماذا ستفعل بمصيرها، هل ستنتفض ام ستروض نفسها . بمفهوم معين خانها صديقها الذي كانت معه في السراء والضراء وتركها وحيدة حين وقعت في شباك الشرف الواهية وتحول أهلها من مجموعة متنورين يرسلون ابنتهم للجامعة لتسبح في بحر الحياة وتشرب من مياه الحرية ، ليتحولوا لمجموعة صيادي العفة والشرف في انتظار حورية البحر حتى تقع في شباك العادات والتقاليد والذكورية البالية . سمر قبطي ممثلة منطلقة لم تمثل من قبل ، أدت دورها بصدق آخذ ، وكانت ببساطتها وخجلها الصادق شريحة واحدة من العديد من صور النساء العربيات في موكب نساء العالم العربي يشققن طريقهن للحرية في ظل الرجعية، قد يرى البعض انها لا تمثل فتيات المجتمع العربي وأنها تعاني من مشاكل الأغنياء السخيفة ، فالسؤال ان تغني ام لا يبقى معضلة صغيرة أمام تزويج القاصرات وتعدد الزوجات وقتل النساء والعنف والقمع بتشكيلاته العديدة الذي تتعرض له الشابة العربية ، ولكن في نهاية الفيلم يترك المخرج للمشاهد ان يقرر ماذا سيحدث لسمر وحلمها وحبها ، فقضية الوطنية لاقت ملاذا في المقاومة بالفن في الفيلم وقضية العنصرية لاقت تنورا ووعي الشباب الفلسطيني لتصدها وقضية الهوية حلت في نفوس أبطال الفيلم من جيل النكبة الثالث الذين مروا عبر مفرق 48 وماذا سيحل إذن بالنضال النسوي في الداخل الإسرائيلي ؟ يبقى هذا هو السؤال حتى المفرق القادم..

نشر سابقا في موقع بانت

عن الكاتب
سماح سلايمة هي عاملة اجتماعية وناشطة نسوية تعمل من أجل حقوق النساء العربيات. سلايمة اغبارية هي ايضا مديرة جمعية نعم - نساء عربيات في المركز.
تعليقات