ما مشكلة إسرائيل مع مقطوعي الأطراف؟
منذ عدة أسابيع شاهد الجميع ”إبراهيم أبو ثرية“ الشاب الغزاوي مبتور الأطراف و هو جثة هادمة بعد أن أصابته عدة طلقات مباشرة من قناصي الإحتلال المتمركزين خلف السلك الشائك بيت غزة و إسرائيل. و اليوم في منظر غاية في السريالية نرى الشاب ”صابر الأشقر“ (معروف خطأً بفادي أبو صلاح) في كرسيه المتحرك يتحدى قناصي الإحتلال قبل أن تستقر رصاصة مباشرة في جسده المبتور لترديه قتيلاً. إبراهيم و صابر كلاهما فقدا قدميهما في قصف إسرائيل لقطاع غزة في الأعوام السابقة و كلاهما عادا زحفاً على ايديهما تجاه الحدود قبل أن يجهز عليهما الجيش الإسرائيلي للمرة الأخيرة.
كثر و يكثر الجدل عن سبب قتل معاقين لم يشكلا الحد الأدنى من التهديد لجنود الإحتلال المتحصنين. الرصاصات جاءت مباشرة والقتل كان مع سبق الإصرار والترصد. عندما فقد الشابان قدميهما في الحرب على غزة كان ربما يمكن أن نفترض أنه في حالات القصف فالخسائر الجانبية تكون أحياناً فادحة. سأتقمص هنا دور محامي الشيطان وأفترض جدلاً أن إسرائيل ألقت بقنابلها مستهدفةً كما هو الإدعاء دائماً أهدافاً أو تجمعات لمسلحين فلسطينيين. المتوقع أن أي ”مدني” متواجد في المنطقة سيُصاب بشظايا قد تؤذي للموت أو كما كان الحال مع إبراهيم وصابر تسبب بتراً للأطراف.
فالنفترض أن الشابين الإثنين كانا ضحيتين غير مقصودتين وإن كان هذا الإفتراض فيه بعض الإهانة لأرواح العديد من العائلات الفلسطينية التي ردمت منازلها فوق رؤوسها في الشجاعية والتفاح وحي الدرج في مدينة غزة وغيرها من مناطق القطاع. ولكني هنا أسعى لوضع فرضية جدلية تكون فيها إسرائيل قد خاضت هجومها على غزة بكثير من الإلتزام بقواعد الإشتباك والتعاطي التام مع القوانين الدولية التي تحمي المدنيين في حالات الحرب. أكثرنا يعرف أن الحقيقة بعيدة كل البعد عن هذا ولكنها مجرد فرضية فالنعتبرها ساذجة أو باسوأ الحالات مهينة لمن فقدوآ أعزاءهم في الحروب الثلاثة الماضية على القطاع.
أمْر الله ونفذ كما يقولون و فقد كلاً من صابر و إبراهيم أقدامهما في القصف. ولكن لماذا القتل على الحدود بعد ذلك؟ صابر وإبراهيم خرجا بأرواحهما من تحت الركام وإن كانا تركا نصفا جسديهما هناك. إن كانت أقدامهما قد شكلت خطراً وجودياً على إسرائيل فقد زال هذا الخطر بزوال تلك الأقدام. فما بال الجنود يطلقون عليهما النار؟ ما وجه الخطر الذي شعر به الجنود من معاقين إثنين؟ أعتقد أن الإجابة حبلى بالإرهاصات و التعقيدات النفسية أكثر منها السياسية. دعني أشرح.

أي فلسطيني بتلقائية يفهم ويتماهى مع عقلية التحدي ضد الإحتلال. في الحقيقة هذه ليست مجرد مسألة تعزيز للنفس أو تباهي بالشجاعة و لكنها حالة نفسية لا يمكن تجاوزها تُمكن الفلسطيني من خلق واقع موازي يستطيع من خلاله عقلنة ما يحدث. فأمام الجبروت العسكري الإسرائيلي فمن الضروري للفلسطيني الضعيف عسكرياً أن يَخلِق لنفسه سلاحاً نفسيا يساعده على الوقوف والثبات في وجه ما يراه إنكاراً لوجوده وحقوقه. إما هذا الثبات أو الإندثار التام. إنها هي حالة وجودية بالمطلق.
أهل غزة يُمكن فهم إندفاعهم بأنه ناتج عن حالة الإحباط و إنسداد الأفق. فالطبيعة البشرية السوية تستجيب للمؤثرات المحيطة بنسبة وتناسب. بمعني أنه في ظل وضع إنساني وسياسي وإقتصادي يتأرجح على حافة الكارثة فالمتوقع أن تنتج ردود أفعال متساوية بالمقدار وهذا بالضبط ما حدث على حدود غزة. الإندفاع أمام الرصاص لم يكن أبداً رغبة بالموت بل إستبسالاً يائساً من أجل الحياة. و لكن كيف تنطبق هذه الحالة النفسية على الجنود الإسرائيليين خلف السواتر الرملية؟ هل شعروا بخطر محدق ووجودي جعلهم يطلقون النار بغرض القتل على المعاقين جسديا حتي؟
أعتقد أن نظرية الفعل وردة الفعل النفسية لا تنطبق كثيراً على الحالة الإسرائيلية اليهوية بمجملها كما هو الحال في الجانب الفلسطيني. فمن المنظور العسكري المادي فصابر وغيره من المتظاهرين لا يشكلون خطراً يستلزم معه الإفراط في إستخدام القوة المميتة. ولكن لماذا القوة المميتة في وجه عُزل؟ دعني أنتقل لشرح سيكلوجيا القاتل وهو الجانب الأهم في هذا المقال.
المجتمع الإسرائيلي اليهودي بعموميته مكلوب بعقدة الفناء ويعيش بحالة غريبة ومستمرة من عوارض ما بعد الصدمة و التي يمكن أن ننسب الكثير من أسبابها للمحرقة اليهودية في الحرب العالمية الثانية. الأبحاث الحديثة في مجالي علم النفس السياسي والإجتماعي ترى أن أعراض ما بعد الصدمة تنطبق على مجتمع بأكمله و ليس على الأفراد فقط. أي أن لها طبيعة جمعية أيضاً. بالمحصلة فطالما أن المجتمع يعاني من هذه الأعراض فإن المؤسسات الإجتماعية بشكل واع أو غير واع تصبح مراكز لتكريس و تثبيت هذه الأعراض في العقل الجمعي للأفراد في المجتمع. مؤسسة الجيش في إسرائيل ليست منفصلة عن المؤسسات الإجتماعية الأخري وعقيدتها القتالية هي بالضرورة قائمة على القناعة بأن اليهود مهددون بالإبادة. يكفي أن تنظر لعبارة ”لعولام لو عود“ و التي تشكل الركيزة الأساسية الرمزية للجيش الإسرائيلي وتعني ”لن يحدث ما حدث مرة أخرى أبداً“ وهي إشارة للهولوكوست لتفهم طبيعة البنية القيمية في أسلوب وعقيدة هذا الجيش.
بالمحصلة فإن الجندي الإسرائيلي العادي – وأنا هنا لا أتحدث عن أمور مطلقة، هنالك دائماً استثناءات لكل قاعدة – هو نتاج لهذه المؤسسات الإجتماعية. الكثير من هؤلاء الجنود مقتنعون بأنهم يقاتلون ويقتلون من أجل وجود الشعب اليهودي لأن التراخي يمكن أن يؤدي لمحرقة جديدة. إما أن تَقتل وإما أن تُقتل – نظرية مطلقة ولا أماكن رمادية فيها. هنا فإن أعراض ما بعد الصدمة تؤخذ من سياقها التاريخي وتُطبق على الفلسطينيين.
مثلهم مثل من يصدرون لهم الأوامر بإطلاق النار فإن الكثير من هؤلاد الجنود لا يرون الصراع مع الفلسطينيين من المنظور السياسي أو الجيو سياسي. فإدراكهم للواقع يأتي من خلال إحساسهم بالخوف من الإبادة مع عدم الإعتبار لمسألة إنعدام التناسب في موازين القوة أو العلاقة الأفقية بين القوة المحتلة وبين من يرزحون تحت الإحتلال.
إسرائيل هي الدولة المحتلة الوحيدة في التاريخ الحديث وربما القديم التي تتعامل وتعاملت مع من تحتلهم كأنهم قوة مساوية لها. أو على الأقل حاولت وتحاول إقناع نفسها بهذا. وهذا برغم أن حتى أبسط التعريفات لمفهوم ”إحتلال“ تقترح بالضرورة وجود علاقة بين طرفين غير متكافئين بالقوة والموارد وأحدهم مسيطر على الآخر. فلا غرابة أن رشق الحجارة يُقابل بصليات من الرصاص الحي أو أحكام بالسجن مبالغ فيها. فبالعقلية الإسرائيلية فالتهديد دائماً وجودي بغض النظر عن مقداره وطبيعته وحتى إن كان هذا التهديد لا يملك أقداماً كالأشقر أو أبو ثرية. فما بالك عندما تكون الإحتجاجات الفلسطينية الغير مسلحة تنادي بحق العودة وهو الأمر الذي يضع ”شرعية إسرائيل“ التاريخية والسياسية على المحك.
المسألة الثانية وهي الأهم هنا هي قضية الهروب من الشعور بالذنْب. لا أتحدث بالتحديد عن الشعور بالذنب لقتل متظاهرين عُزّل. بل عن مسألة القتل من أجل قتل الإحساس بالذنْب. عندما تَمَثَل كُلاً من صابر وإبراهيم في منظار القناص الإسرائيلي لم تمنع اعاقتهما هذا القناص من سحب الزناد و قتلهما. بل على العكس تماماً. ففي عقلية هذا الجندي فقد بديا له كأنهما مُهمة لما يتم إنجازها بالكامل. ربما كان هنالك شيء من الشعور بالفشل بأن الجيش الإسرائيلي لم يجهز عليهما بالكامل من البداية، بل وأنَّ هذا الجيش ترك آثاراً لقسوة الإحتلال عملت على تذكير هذا الجندي القاتل بخطيئة إسرائيل.
لمن يعتقد بنفسه بأنه ضحية وأن العالم كله مُتكالب عليه فإن تفنيذ هذا الإعتقاد يخلق عنده شعوراً سلبياً يصعب السيطرة عليه. لسان حال هذا الجندي القناص يقول بأننا كيهود ضحايا وهذا الشخص من دون أقدام هو تذكير لنا بأننا ربما لسنا كذلك. بالسيكلوجيا الإجتماعية تسمي هذه الظاهرة بالتنافر المعرفي (cognitive dissonance) و يعني هذا أن الأشخاص يبلورون معرفتهم بالعالم و بالتالي إحساسهم بهويتهم و كينونتهم و يعتبرونها أموراً غير قابلة للنقاش أو الفحص. أي شيء ممكن أن يعكر صفو هذه المعرفة وبالتالي دفع الشخص للشك بإدراكه لذاته و محيطه فهو شيء صعب وقاس والتغلب عليه يتأتي بالإنكار التام أو التجاهل. إن كنت لا تستطيع مجابهة الحقيقة فأغمض عينيك و تظاهر بأن شيئاً لم يكن و أن كل ما تعتقده لا زال في أمان و لم يغيره شيء. ”صابر الأشقر“ كان تعكيراً فجاً للشعور اليهودي الإسرائيلي بالفضيلة و تذكيراً بأن إسرائيل هي دولة معتدية وأن الضحايا الحقيقيون هم من يرزحون تحت نير الإحتلال وليس من يحتلونهم.
ما الحل إذاً؟ كيف لذلك الجندي بأن ينفض عن نفسه هذا الشعور بالذنب؟ أسهل طريقة هي بإزالة الأسباب المؤذية لهذا الذنب – قتل الذنب نفسه وإزالته من الوجود. ما لا نراه من قسوة إسرائيل، يقول لسان حالهم، يعني بأننا ربما نبقي على شعورنا بالفضيلة و البراءة. ما لا نراه فهو غير موجود. فالنطلق النار على الذنب المتمثل بمبتوري الأقدام ونقنع أنفسنا بأنهم غير موجودين وبأننا لا زلنا أنقياء و بأن ما نفعله مجرد دفاع مشروع عن النفس.
منذ عدة عقود قالت غولدا مائير “انه لم يكن هناك شعب فلسطيني في بلاد فلسطين ونحن اتينا وطردناهم واخذنا دولتهم. لم يكونوا موجودين اصلا”. بانكارها هذا عبرت رئيسة الوزراء السابقة عن نفس الفكرة التي طرحتها آنفاً. لأن الفلسطيني الحي والموجود هو التذكار الوحيد والأساسي لخطيئة قيام إسرائيل. هو التذكار الأساسي بأن شرعية وجود إسرائيل تتخلها الكثير من علامات الإستفهام. إذا فما بال الحكومات الإسرائيلية المتتابعة تستميت لنزع إعتراف فلسطيني بإسرائيل! الفلسطينيون ضعفاء ووزنهم الدولي قليل فما العبرة بأن إسرائيل القوية عسكرياً و إقتصادياً مستعدة لفعل أي شيء من أجل هذا الإعتراف؟ إنه الذنب نفسه, إنه البحث المستمر عن الشرعية والتي لن تستقيم أبداً إلا بإعتراف الضحية بالجلاد. فطالما هنالك فلسطينيون يطالبون بحقوق فهذا سيكون دائماً سبباً لتعكير صفو اليهود الصهاينة و شعورهم بالإستقرار والأمان. فموت الفلسطيني يزيل عن كاهل إسرائيل هذا الذنب الذي لا يطاق ويخلق لها الطمأنينة التي طالما بحثت عنها.
مسألة الذنب أيضاً مرتبطة بضعف الفلسطينيين. بالمنظور اليهود الصهيوني فإن السعي لخلق صورة للعالم بأن الصراع بين طرفين متكافئين يهدف بالضرورة لتجنيب إسرائيل دور الجلاد. ربما سياسياً هذا تكتيك يمكن فهمه فهو يعمل جيداً كمبرر للإنتهاكات اليومية في الأراضي المحتلة وكذلك يعزز قناعة العالم بحاجة إسرائيل المبالغ فيها للأمن. الحقيقة السيكلوجيا هي أن صورة الفلسطيني الضعيف تذكر اليهودي بضعفه قبل قيام الدولة. فهو يكره ذاته الضعيفة التي قادته برأيه لغرف الغاز في معسكرات الإبادة النازية.
إنه يفضل أن يعيش وهماً مفاده أن الفلسطيني ذلك الضعيف هو خطر وجودي و التعامل معه لا يتم إلا بالقوة المفرطة. و إستعمال القوة المفرطة وردات الفعل المترتبة عليها تخلق لليهودي الصهيوني حالة من القناعة بأن الخطر الفلسطيني فعلاً وجودي. إنها حلقة مفرغة من كره الذات و الشعور بالذنب تتكرر وتبرر بعضها بعضاً. فصورة الفلسطيني المبتور الأطراف ربما تستجلب في نفس ذلك القناص أشد ما يمقته اليهودي الصهيوني بذاته وهو الضعف. فالأقتل ذلك المعاق فاقد الأطراف فأنا لاأريد أن أرى نفسي فيه – ربما هذا ما يدور في العقل الباطن لكثير من هؤلاء الجنود خلف الكثبان الرملية في غزة. فالصهيونية بمجملها قامت على أساس خلق اليهودي الجديد الذي يتمتع بالقوة. إنها حركة قومية عملت على بتر ساقيها الضعيفتين بنفسها وحاولت قطع الصلة مع الماضي اليهودي حيث كان اليهود ضعافاً و مضطهدين بغالبية المجتمعات التي عاشوا فيها.
الفلسطيني الضعيف إذاً هو ما يسبب لإسرائيل قلقاً وذنباً وجودياً و الحل الوحيد يأتي بإزالته من الوجود. فالنقتل الذنْب إذاً. الميت غير موجود و بالتالي فلا نراه و ما لا نراه يجعلنا أبرياء.