الليبرالية لوهلة
تردّ الليبراليةُ السيادةَ إلى الرجلِ العادي: فبصفته مستهلِكاً، لا يقبلُ بــ”الرفيق” المنظِّم والمخطِّط، لكي يحدّد له ما يجب إنتاجه، وبأية كميّة، ومن أيّ نوع، ومن قِبل مَن، وكيف، وأين؛ وبصفته ناخباً، فهو يبقى سيّداً في توجيه سياسات أمّته؛ وبصفته مواطناً، لا يرضى بأن يُعتبر من قِبل أصحاب السلطة العليا الأضعفَ على الخضوع. ويقابل سيادةَ الفرد هذه، في مجال تصريف شؤون الدولة، نظامُ الحكومة التمثيلية، والتي يقيّدها فصلُ السلطات وحكمُ القانون، بحيث لا تُعفى قراراتُها من المراجعة القضائية والدستورية.
ينحدر مصطلح “الليبرالية” من الكلمة اللاتينية (ليبر) Liber والتي تعني “حُرّ”، لذا فهي تشير أصلاً إلى فلسفة الحريّة. ولكن، ولسوء الحظ، أصبحت الليبرالية، لمن لا يعرف جذورها، ومبادئها، وأهدافها، شيئاً مختلفاً تماماً؛ فقد تمّ استعارة هذه الكلمة من قبل الطارئين على الفلسفة السياسية، وعلى الأخص في الشرق الأوسط، بإلصاقها بما هبّ ودبّ من تعابير، كالإمبريالية الأمريكية، والرأسمالية المتوحشة، وديكتاتورية السوق، والصهيونية العالمية. وبتوسّع الجهل العام والخاص في دلالات الألفاظ وتطوّرها، يتم وصف الليبرالي بذلك الشخص الذي يؤمن ببيع مقدّرات الوطن باعتماده الكامل على قوى السوق، ونسفه للعدالة الاجتماعية والاقتصادية، على المستويات البلدية، والحكومية، والوطنية، وحتى الدولية!
لا بدّ من الاشارة للقراء غير المطّلعين على المدرسة الفكرية الليبرالية، بأن الاستنتاج الأهم والأسمى لأي ليبراليّ هو أن المجتمع الحرّ الذي يسوده حفظ الكرامة الإنسانية واحترام مبدأ الفردانية، لهو الطريق الوحيد إلى السلام والانسجام، المحلي والدولي. كما أن النتيجة النهائية للصراع بين الليبرالية والحكم الاستبدادي (السياسي، والديني، والاقتصادي)، لن يتم حسمه بالسلاح، بل بالأفكار، والتي، وحدها، ستقلب الموازين، وترجح كفّتها.
ومع عدم وجود أيّ مظاهر ليبرالية عربية، فإن الحقيقة المذهلة تتمثّل، في واقع الأمر، في أنه ما من أحد ممّن كانوا يؤيّدون ويدافعون عن شكلٍ ما من الأشكال البديلة (من شيوعية، واشتراكية، وفاشية، وقومية عربية، وإسلاموية، وسلفيّة، وغيرها)، قد قدّم نقاشاً أو بحثاً حول مقترحاته المتعلقة بذلك! وحتى في وقتنا الحاضر، فإن الكتّاب والمحللين الذين يمتّعوننا بانتقاداتهم المفصّلة حول الليبرالية، و”الرأسمالية المتوحشة”، وبتنبؤاتهم حول زوالها “الوشيك”، هم صامتون ومتحفّظون بشكلٍ غريب في معالجة أيّة تناقضات، أو غيرها من المصاعب التي قد تحدث في تفعيل النظام الذي يفضلونه أو يتوقّعونه! ولا تزال لمعظم العرب تشوّشاتهم الفكرية، وهذا نابعٌ عن عدم فهمهم لليبرالية كمبدأ عام. كما أنهم، عند اتخاذ قرار ما، أو إبداء رأي حول أي قضية اجتماعية أو اقتصادية، عادة ما يكون متناقضاً، لا بل كثيراً ما يكون عاطفياً، مما يدفعهم للرجوع إلى عدد من المصطلحات البديلة المستنبَطة، أو المواربات المشوّهة والمحرّفة، على سبيل المثال، لا الحصر، “النيوليبرالية” (وكأن هناك، عن طريق المصادفة، ليبرالية جديدة أصلاً!).
على كل ليبرالي حقيقي استعمال المصطلح على نفسه، دون اعتذار أو تحفّظ، والقول علناً: أنا ليبرالي! بشرط، أن يطبّق الليبرالية، بمعناها التقليدي والصحيح، على نفسه قبل الآخرين. وبما أنه من واجبي وطبيعتي كليبراليّ، عند شرح أي ظاهرة، ألا أتطفّل على القارئ في تقديم تعليقاتٍ من عندي، أو انحيازاتٍ ما، باستثناء خاطرة واحدة أو اثنتين من المتعذّر عليّ كبحهما، ألا وهما: أولاً، إن أردتَ أن تكون ليبرالياً، عليك أن تتصف بالشجاعة الأخلاقية، بأن تحترم الإنسان (عدا الإرهابيّ قطعاً)، كتابةً، وقولاً، وفعلاً، وأن تعترف بالفرد، كما هو: اليهودي، والمسلم، والمسيحي، والصابئي، والشيعي، والدّرزي، والبهائي، والزّيدي، والعلويّ، والكردي، والأرمني، والأمازيغي، والأذَريّ، والتركماني، والمُلحِد، واللاديني، والصّوفي، والنّوبي، ومُثليّ الجنس، والمتديّن، والإفريقي، والآسيوي، والفارسي، والبلوشي، والغجري؛ وإلا فاهجُر الليبرالية إلى نوع آخر من المدارس الفكرية، فهي لا تحتاجك أصلاً؛ وثانياً، يتعيّن على أيّ دولة تودّ أن تسمي نفسها متحضّرة، ومدنية، وذات تقاليد مؤسساتية راسخة، عدم التسامح أبداً مع الممارسات الفردية والجماعية، التي تنتهك كرامة الإنسان، وحريته الشخصية، ومعتقداته الخاصة.
إن النظرة أو الحجّة التي تعوّد عليها العرب، وفي كل المواضع السياسية، ألا وهي “التضحيات المؤقتة”، التي على الفرد اتخاذها من أجل المجتمع، مهما بدت جذّابة، لهي فعلٌ ينطوي على سذاجة؛ إذ أن المرء بفعله هذا (التضحية) سيحجب عن نفسه منفعة لاحقة، إن تعاون مع الآخر، المسيحي أو اليهودي أو الدرزي، داخل المجتمع نفسه، حيث أنها (اللاتضحية) ستعوّضه عن مشقة انتظار الأوهام، والبطولات الدونكيشوتية، وغيرها من القضايا والمتناقضات المعاصرة.
هل فقدنا العنوان الليبرالي بشكلٍ يتعذّر عكسه أو إلغاؤه؟ إنني أختلف مع هذه النظرة التشاؤمية، لأنه، طبقاً لأي معيار معقول، لم تتغير الليبرالية كجوهرٍ عام، فهي تشتمل على أكثر من مجرد الحريّة الاقتصادية، ورفض التوسّع الجامح للتدخّل الحكومي في مناحي الحياة، والوعي المتجدّد لحرية الفرد. وهذا يتمثل أيضاً في مواجهة العملية التي فقدنا معنى الليبرالية بموجبها: بالتوقّف، ببساطة، عن استعمال المصطلح بمعناه غير الصحيح.
كلّ ما أودّ تحقيقه هنا، في خضم الانهيار الفكري الذي نعيشه، هو أن أقدّم للأكثرية الساحقة من القراء في الشرق الأوسط الفرصة لكي يعرفوا شيئاً ما عن الليبرالية، وبالتالي تمهيد الطريق أمام كتاباتي اللاحقة في (تايمز أوف إسرائيل)، بنسختها العربية، عن جذور، وخصائص، وأهداف المدرسة الفكرية الليبرالية، سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً، لا أستطيع سردَها ومعالجتها في مقالةٍ واحدة.