الرسالةُ الأولى : الجِدارُ بينَنا
الرسالةُ الأولى : الجِدارُ الذي يفصِلُ بينَنا
جاريَ العزيز،
بدايةً ، فقد لقّبتُكَ بـِ ” جاري” كوني أجهلُ اسمكَ وأيّ معلومةٍ شخصيّة أستدلّ بها عليك . بطبيعةِ الحالِ ، ونتيجةً للظروفِ المحيطة بنا فإن كلمة ” جار” قد تكون لقباً عفوياً جداً يصفُ طبيعة العلاقة بيننا ; كونَنا نمثّلُ جانبينِ متطفّلينِ دخيلينِ على أحلام بعضهِما البعض ، إننا مُنتهِكونَ لما يشعرُ به كلٌّ منّا تجاهَ وطنه ، كما أننا نُجسّد فعلياّ أسوأ الكوابيسِ التاريخية لبعضِنا البعض ..
جيران؟! .. عمليّاً ، أنا لا أعرفُ أي لقبٍ آخرٍ لأخاطبكَ به سوى هذا اللّقبْ!
لوهلةٍ اعتقدتُ بأنّه قد تحينُ الفرصةُ التي سألتقي فيها بِك ، وها أنا أكتبُ لكَ على أملِ أن نلتقي يوماً ما ، مُتخيّلاً إياكَ داخلَ منزلِكَ في مكانٍ ما على التلّة المقابلة التي تُطلّ عليها شُرفتي . إنّنا لا نعرفُ بعضنا بعضاً على أرضِ الواقعِ، إلا أنّ حياتي وحياتَكَ متداخلتان في بعضهِما البعضِ إلى حدٍ كبير.
في واقعِ الحال يا جاريَ العزيز، كلانا يعيشُ على جانبين متقابلين من جدارٍ اسمنتيّ ينغّصُ علينا منظرَ الطبيعية الخلّابةِ التي نتشاركها سويّة. أنا أسكنُ في حيّ يُدعى التلّة الفرنسية ، شرقي القدس، شقّتي موجودة في الصفّ الأخير من المنازلِ التي تبدو لكَ كمبانٍ مدرّجة تنحدرُ من تلكَ التلّة .
ومن التلّة الفرنسيّة – حيثُ أسكنُ – بالكاد أستطيع رؤيةَ الحاجز العسكريّ ، ذلكَ الحاجز الذي لا بدّ لكَ وأن تعبره كي تتمكّنَ من دخول مدينةِ القدس – إن كانَ لديكَ تصريحٌ يخوّلكَ بالدخول إلى القدس أصلاً – . أنني أشعرُ بوجود ذلكَ الحاجزِ في كلّ مكانٍ رغم أني بالكادِ أراه . بينَ الحينِ والآخر تُعكّر أصواتُ أبواقِ السياراتِ روتين حياتيَ الصباحيّ الذي أبدأهُ بالتأملّ والصلاة ، تلكَ الأصواتُ التي يصدرُها السائقونَ المحبطونَ الذينَ يصطفّون أمام الحاجز ، ولربّما تكونَ أنتَ يا جاريَ العزيز أحدَ اولئكَ العالقينَ في صفّ اليأسِ ذاك!
أحيانا أرى الدخانَ يتصاعدُ من فوقِ تلّتِك حيثُ تَسكُن، وقد عَلِمتُ منذ وقتٍ طويلٍ أن الدخانَ الأسود قد يكونُ مصدرهُ الإطاراتُ المُشتعلةُ التي عادةً ما تُرافقُ المواجهاتِ التي يرشقُ بها الشبّانُ الفلسطينيون الحجارةَ على الجنود الاسرائيليين ، ثمّ يتلو ذلك تصاعدٌ للدخان الأبيض ، مما يعني أن الجنودَ قد أطلقوا على الشبان غازاً مسيلاً للدموع.
لطالما كنتُ أتسائلُ كيف تُديرُ أمورَ حياتك ، وكيفَ تُحافظُ على قدرٍ منَ الحياةِ الطبيعيةِ وسط هذه المَعمَعة؟
إنني أعي تماماً بأنك كمواطنٍ فلسطينيّ محرومٌ من حقوقِ المواطنةِ التي أتمتع بها أنا كمواطنٍ إسرائيلي ، وهذا التفاوتُ المُستمرّ بين حقوقي وحقوقِك ، بينَ تلّتي وتلّتكَ ، يتعارضُ مع فهْميَ العميقَ لذاتي ، كما ويتعارضُ مع أخلاقيّاتي كيهوديّ وكإسرائيليّ ; لذا ، فإنّ إنهاءَ هذا التفاوتِ بيننا هو أحد ُأهمّ الأسبابِ التي تجعلني أدعمُ خيارَ حلّ الدولتين كَحلّ للصّراعِ الفلسطينيّ الإسرائيليّ.
عادةً وقبَيلَ الفجرِ، أجلسُ في مكتبي المقابلِ لتلّتِك ، بينما يُنادي المؤذنُ للصّلاِة بصوتٍ هاديءٍ وكأنه متردّدٌ لا يريدُ أن يُكدّرَسكونَ الليل . في هذا الوقتِ من اليوم ، ألفُّ نفسيَ برداءِ صلاةٍ أبيضَ وأجلسُ متربّعاً على وسادةِ التأمّل ، أسجدُ فيَطَأُ جبينيَ الأرضَ تلبيةً لنداءِ الصّلاةِ القادمِ من هناك . وخلالَ هذا الحديثِ الحميميّ مع الله، أسألُهُ أن يجيبَ دعوايَ وأن يمكنّني من الحديثِ معكَ يوماً ما.
تشرِقُ بعدها شمسٌ شاحبةٌ على الصحراء من خلفِ الجدار، أثني ذراعيّ الملفوفتين بأشرطةِ التفيلين السوداءَ، بينما أثبّتُ على ساعدي صندوقاً أسودَ صغيرَ صوبَ قلبي ، وصندوقاً آخرَ على جبيني ، في إشارةٍ إلى اقترانِ القلبِ والعقلِ معاً في أداءِ العبادة. في داخل هذه الصناديقِ الصغيرةِ تُكتُبُ آياتٌ من التوراة، إضافة إلى الصلاةِ اليهوديّة التي تؤكّدُ على وحدانيّة الله: ” إسمع يا إسرائيل، الرب إلهُنا ربٌّ واحد” ، أو كما تقولُ الآيةُ القرآنية: ” وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ “.
إنني أرى بوضوحٍ من نافذةِ بَيتي في زاوية المدى البعيد مساحةً شاسعةً مغطاةً بالرملِ تتلوها رقعةً زرقاءُ غير مُتسقة: أرى البحر الميّت خلفَهُ هضابُ الأردنِ، فأتخيّل نفسيْ وكأنني أندمجُ في تلك المساحةِ الرّحبة ، أتخيلُ نفسي جزءاً من بلاد الشرق الأوسط ، إلّا أن الجدارَ يعيدُني إلى الواقع ، إلى المساحةِ الضيّقةِ التي تطلّ عليها شُرفتي.
أذكرُ جيّداً إحدى المراتِ التي حاولتُ أن أتعرّفَ فيها عليكَ قبل أن يُبنى الجدارُ وقبلَ أن تسوءَ الأوضاعُ هنا، كانَ هذا أواخر عام 1998. بدت لي تلكَ الفترةُ وكأنها زمنٌ آخر ، بالفعل كانت قَرناً آخر! أذكرُ حينَها أنّي انطلقتُ لرحلة “حجّ” اتعرّفُ بها على الديانتينِ الإسلاميّة والمسيحيّة، دياناتِ جيراني على هذهِ الأرضِ المُقدسة. انطلقتُ في هذهِ الرحلةِ كَيهوديّ متديّنٍ لم يكُن يَسعى لفهم مُعتقَدِكَ بقدرِ ما كانَ يسعى لفهمِ جزءٍ من تجربةِ حياتكَ الدينيّة ، أردتُ أن أتعلّم كيفَ تصلّي وكيف تقفُ بين يدي اللهِ في أكثرِ الأوقاتِ حميميّةً بينكما.
كانَ هدفي آنذاك أن اكتشفَ إنْ كانَ اليهودُ والمسلمونَ يتشاركونَ بعضَ القواسمِ المُشتركةِ فيما يخصّ الذاتَ الإلهية ، وفيما إذا كانَ باستطاعةِ المتديّنين أن يتشاركوا مع بعضِهِم البعضَ هذه البقعةَ من الأرض ، هذه الأرضُ التي يُستغلّ بها اسمُ اللهِ في الكثير من الأحيانِ لتبرير الكثيرِ من الأعمالِ الشنيعةِ . أردتُ أن أتعلّم كيفَ بإمكاني أن أشعرَ وكأنني في بيتي حينَ أكونُ في المسجد، أردتُ أن أرى في الإسلامِ فرصةً روحيّة ، لا مصدراً لتهديدِ وجودي. أردتُ أن أصغيَ للدعوةِ الحقيقيّة التي يقصدُها المؤذنُ حينَ يُؤذّنُ لصلاةِ الفجرِ : الدعوةُ للاستيقاظ!
في الديانةِ اليهوديّة هنالِكَ خطيئة نعتبرُها أفظعَ من خطيئةِ الإفطارِ في يومِ الغفران ، وهي ازدراءُ الذاتِ الإلهيّة ، فيما يكونُ الذنبُ أكبرَحينَ يَرتكبُ إنسانٌ متديّنٌ هذه الخطيئة ; فإذا أساءَ هذا المتديّنُ للذاتِ الالهيّة او اقترفَ ظلماً باسم الله فإنّهُ سَيقودُ غيرهُ لارتكابِ هذهِ الخطيئة ايضاً ،باعتبارهِ قدوةً ومثلاً أعلى لغيرِه . ومن هذا المنطلقِ فإن إحدى الأمورِ التي تجمعُ بين الأديانِ – بحسب رأيي – هي تقديسُ اسمِ الله . إنني أرى في التفاعلِ مع مؤمني الدياناتِ الأخرى فُرصةً لخلقٍ تواضع دينيّ يقود إلى قناعةٍ راسخةٍ مفادُها بأنّ الوصولَ إلى الحقيقةِ والقداسة ِلا يَقتصرانِ على طريقٍ واحدٍ . إنني أعتزّ بديانتي اليهوديّةِ وأفخرُ بها، وأعدّها لغةً حميميّة للتواصلِ مع الله ، لكنّي في الوقتِ نفسِهِ أؤمنُ بأنّ الله يتكلمُ عدّةَ لغاتٍ معَ عباده.
لقد كنتُ مُبتهجاً للغايةِ حينَ شاركتُ بالعديد من المحادثاتِ والنقاشاتِ التي استطعتُ من خلالِها أن ألمسَ شيئا من ذاتِ الله، حيثُ كانَت تلكَ غايتي ومَقصدي عندما تعرّفتُ على عالم الإسلام . إنني أذكرُ جيّداً ذلكَ الشرفَ العظيمَ الذي حظيتُ بهِ حينَ سَنحَتْ ليَ الفرصةُ بزيارةِ عدّةِ مساجد ، حيثَ تزامنَت زيارتي إليها مع وقتِ أداءِ الصلاة. رأيتُ كيف تكونُ صفوفُ العبادةِ واندمجتُ بتلكَ الحركاتِ المُنسّقة والمُتناغمةِ التي يؤدّيها المسلمونَ أثناء صلواتِهِم ، فتشعرُ خلالَ تأديةِ تلكَ الحركاتِ بأنّ جسدَك يُغمرُ كليّاً في روحانيّة العِبادة . تعلّمت آنذاك أن تجربة الخضوع للهِ تبدأ مع اصطفافِ المسلمينَ بجانبِ بعضهِم، حينَ ترتصّ الصفوفُ فيلاصقُ كتفُكَ كتفَ جارِ لكَ من كلا الجانبين ، ثم يتلو ذلك أداءُ الحركة المقدّسة : الانحناءُ ثمّ الاستقامةُ ثمّ السّجود ومن ثمّ الوقوف ، فتتكرّرُ هذه الحركاتُ إلى أن تشعرَ بأن جَسدَك يموجُ كالماءِ ، كجزيئةٍ صغيرةٍ من موجةٍ عظيمةٍ من الصلواتِ التي بَدأت منذ زمنٍ طويلٍ قبل َأن تُخلقَ، وستستمرُّ لفترةٍ طويلةٍ بعد أن تَفنى.
إن التعايشَ في الأرضِ المقدّسةِ منوطٌ أحياناً ” بالانفصال المُشترَك ” ; انفصالٌ متّفقٌ عليه إلى حدٍ ما ، هذا الانفصالُ الذي يتجسّدُ فعليّاً في أحياءِ القدسِ الأربعة: الحيّ الإسلاميّ واليهوديّ والمسيحيّ والأرمنيّ ; فهؤلاء يمثّلونَ تجسيداً عملياً لواقعِ الأمانِ هناك ، إذ ترتبطُ درجةُ الأمان بمقدار المسافة الفاصلةِ بيننا . لقد كانت رحلتي بمثابةِ اختراقٍ لواقعِ التعايشُ عن بُعد ، لقد مَثّلتْ رحلتي إصراراً على امكانيةِ وجود مودّةٍ حقيقية بين الجميع.
وكجزءٍ من رحلةِ اكتشافي للإسلامِ ، دُعيتُ في يومٍ من الأيامِ من قبلِ بعضِ الأصدقاءِ في غزة ، بالتحديد من مخيم النصيرات للاجئينَ الفلسطينيين . أذكرُ هذا المكانَ جيداً كوني خدمتُ فيهِ أثناءَ تأدية خدمتي العسكريّة سنة 1990 ، حيثُ شاركتُ في دورياتِ الجيشِ التي كانت تمرّ بزقاق المخيم الضيقة، فكانَ الشبانُ يرشقوننا بالعبواتِ الزجاجيّة المكسورة بينما كانوا يهتفون : ” عمنون بيسلّم عليك” ، قاصدينَ بذلك أنّ الجندي عمنون بوميرانتز يبعثُ لك سلاماً.
وعمنون بوميرانتز هوَ جنديّ اسرائيليّ من جنودِ الاحتياط ، خدم في غزة آنذاك ، إلا أنه وعن طريقِ الخطاً توجّه إلى مخيم البريج – وهوَ مخيم مجاور لمخيمِ النصيرات – فلقيَ مصرَعَهُ حينَ أحاط به حشدٌ من الفلسطينيين ثمّ أحرقوه حيّاً.
بعد مضيّ عقدٍ من الزمان ، عدتُ هذه المرة إلى مخيم النصيرات كزائرٍ مدنيّ “حاجّ” ، لا كجنديّ. أذكُر وقتها أنّي قابلتُ شيخاً كبيراً في السنّ يُدعى الشيخ عبد الرحيم ، كان هذا الشيخُ إمامَ مسجدٍ صوفيّ صغيرٍ في تلك المنطقة ، وما يميّزُ جماعةَ الصوفيّين هو أنّهم يركّزون على إعمال القلب في العبادة أكثرَ من أي شيءٍ آخر. رحّب الشيخُ بي في مسجدِهِ الصغير الذي بُنيَ في الجهة المقابلةٍ لمقبرة ، الأمر الذي لم يكن بمحضِ الصدفة، فالهدفُ من وجودِ المقبرةِ في الجهةِ المقابلةِ للمسجدِ هو ردعُ العباد وتحذيرهُم من اتّباعِ طريقِ الضّلال من خلالِ تذكيرِهِم بالموتِ.
حاولَ الشيخُ في بداية لقائِه بي أن يُقنغني باعتناقِ الإسلام ِ، فطلبَ منّي رفع سبابةِ يدي وتَرديدِ الشهادتينِ – وهما الجملتانِ اللتان بيدأ دخولُ الانسانِ للإسلام بالنطق بهما – ، إلا أنني وضّحتُ له بأن هدفي من زيارةِ هذا المكانِ هو التعرّفُ على كيفية أداءِ المسلمينَ لعباداتهم ،وأنّي لم آتِ إلى هُنا لتبديل ديني ، كونيَ على قناعةٍ تامّة بديانتي اليهودية.
لم يكُن كلامي مُقنعاً للشيخُ ; كونَه يعتقُد بأنه لا يوجدُ سوى طريقٍ واحدٍ يقودُ إلى الله ، وهو الطريقُ الذي رسمه النبيّ محمد (صلّى اللهُ عليهِ وسلّم ) ،على حدّ تعبيره. وفَجأةً ، قادني الشيخُ إلى المقبرةِ المقابلةِ للمسجد ، فدخلنا إلى ضريح شيخِهِ ومعلّمِهِ ، ووقفَ كلانا بصمتٍ لبعض الوقت ثم ما لبثَ أن أمسكَ الشيخُ بيدي مُعلناً بذلكَ عن صداقةٍ تجمعُ بيني وبينه ، صداقةٍ في السرّاءِ والضرّاء.
بعدَها بشهورٍ قليلةٍ عدتُ إلى مُخيم النّصيرات، لكنّ هذه الزيارة كانت مختلفة بعضَ الشيء ; إذ قابلّني الشيخُ عبد الرحيم هذه المرّة وقد بدَت على وجهِه الابتسامة ، واضعاً يدهُ على قلبه قائلاً: ” لقد اعتبرتُكَ صديقاً من أصدقائي منذُ اللحظةِ التي زرتَ فيها هذا الضريح ووضعتَ يدك بيدي ” ، ثم أردف قائلاً : ” إنني أحبُّ جميعَ تلاميذي من كلِّ قلبي ، ولا أفرّق بينهَم سواءاً كانوا يهوداً أو مسلمينَ “.
وبعد أن انتهيتُ من رحلتي التي استغرقَت قرابةَ العام ، بدأ حبّ الإسلامِ يتملّكُ قلبي. لقد احترمتُ وُجدانَ الإسلامِ الذي لا يَعرفُ الخوفَ، خاصة عندما يتعلّقُ الأمرُ بمواجهةِ الموتِ ، الأمر الذي وجدته مميزاً للغايةِ مقارنةً بنظرة الانسان الغربيّ الذي يحاولُ التملّصَ من أي مواجهةٍ تذكّرهِ بالموت ، خلافاً لطبيعةِ المسلمين. لقد تعرّفتُ جيًداً خلالَ هذه الرحلة على القدرة العجيبةِ التي يمتلكُها الإسلامُ في خلقٍ وعيٍ عميقٍ لدى أتباعهِ بحقيقةِ فناءالإنسانِ ، مهما صَغُرَ أو عَظُمَ شأنهُ.
لقدُ سُئلتُ أكثرَ من مرّةٍ في خضمّ نقاشاتيَ السياسيةِ مع الفلسطينيين هذا السؤال: لماذا نُجادلُ بَعضَنا البعضَ حولَ قضيةِ مَن مِنّا يملكُ هذه الأرض طالما أنّ الأرضَ ستمتلكُنا جميعاً في نهاية المطاف؟ السؤالُ الذي لفتَ نظري إلى وجود تعبيرٍ مشابهٍ في معتقداتي أيضاً. ومن هذا المنطلقِ ، فإن جُرأتنا في تبنّي فكرة وجودِنا المؤقتِ على هذه الأرض كمرحلةٍ انتقاليّة تفصِلُ بين هذهِ الحياةِ وحياةٍ أخرى ، بامكانِها أن تُساعدنا على ايجادِ خطابٍ دينيّ للسّلامِ بين شعبينا ، الأمر الذي سَيشكّلُ أساساً لتحقيق مرونةٍ سياسيّة تقودنا إلى نبذِ التوجّهاتِ المتشدّدة والعزوفِ عنها.
جاريَ العزيز ، إنّني أسردُ لك هذه الحكايا والقصص كوني أفترضُ بأنّك انسانٌ متديّن – شأنُك شأنُ أغلبِ الفلسطينيين الذي التقيتُ بهم – ، وإن لم تكُن كذلك ، فأنا أفترضُ بأنّك – على الأقل – مؤمنٌ موحّدٌ لله. لقد جَسّدَت رحلتي التي خضتُ فيها غمارَ عقيدتِك الإسلاميّة محاولةً منّي لتعلّم لغةٍ دينيّة للسّلام ، الأمرُ الذي عمّق من قناُعتي بأنّ أحدَ الأسباب التي جَعلت الجهودَ الدبلوماسيّة المبذولةَ حتى الآن تبوءُ بالفشل ، رغم وجود نوايا حسنةٍ تقفُ وراءها ، هو كونُها تتجاهلُ مسألةَ عُمقِ الالتزاماتِ والواجباتِ الدينيّةِ المتأصّلةِ في الدياناتِ على كلا طرفي الصراع. بالتالي يتوجّبُّ علينا أن نخاطبَ أفئدةَ بعضِنا البعض حتى نَنجحَ في تحقيق سلامٍ حقيقيّ في الشّرق ِالأوسط . ولذلك ، ها أنا أخاطِبُك من هذا المُنطلق ، من منطلقِ انسانٍ مؤمنٍ يخاطبُ انساناً مؤمناً آخر، وبغضّ النظرِ عن اختلافنا في التعبير عن ايماننا بعقيدتنا إلّا أنّ إيماني وإيمانكَ يتشاركان نظرةً جوهريّة ومُشتركة للعالَم : بنهاية المطاف ، فإنّ ما لا نراهُ هوَ حقيقيّ وملموسٌ أكثرَ ممّا هوَ ماديٌّ وملموس ، وأنّ هذا العالمَ ليسَ تركيباً عبَثيّاً أو عشوائيّاً ، بل هوَ تعبيرٌ بحتٌ عن خلقٍ وُجِدَ لغايةٍ مُعيّنة، حتى وإن كانت تلكَ الغاية مُستترةً. إنّهُ تعبيرٌ عن أننا أرواحٌ قبلَ أن نكونَ أجساداً ، حيثُ تترسّخُ هذه الأرواحُ مجتمعةً في مبدأُ الوحدانية، وحدانيّة الله . بالنسبة لي ، فأنا لا أرى أمراً أكثرَ سُخرية من قضيّةِ انكارِوجودِ اللهِ سوى الأفكارِ القائلةِ بأنّ مُعجزةَ الحياة والوجودِ قد جاءَت بمَحضِ الصّدفة.
في حقيقةِ الأمر ، لم يهدِف ترحالي في المجتمع الفلسطيني إلى التعرّفِ على حياتكَ الدينية وطريقة تأديتك لعباداتِكَ فقط، بل أردتُ رؤيةِ جزءٍ من هذا الصراع من وجهة نظرك أنت . أردتُ أن أجبرَ نَفسي على الانفتاحِ أكثَر لأرى المأساة الفلسطينية ، تلكَ المأساةُ المتمثّلةُ في وجودِ شعبٍ مُنكسِرٍ تجمعُه ذكرى الشتاتِ والتشريد ، شعبٌ يستحضرُ كلّ سنةٍ ذكرى الهَزائِمَ المُهينةِ التي تَعرّض لها وتجرّعَ مرارتها.
جاري العزيز ، لقد بَذلتُ قُصارى جهدي كي أقابلَ وأواجهَ الفِلسطينيينَ وأتفهّم علاقتَهم التاريخية وسببَ تشبثّهم بهذه الأرض بمعزلٍ عن روايتي الشخصيّة كيهوديّ اسرائيليّ يمثّل طرفاً من أطراف هذا الصراع. لقد حاولتُ جاهِداً أن أتفهّم الأخطاء التي اقترفناها تجاه شعبِك، وفي خضّم تلكَ المحاولاتِ قابلتُ العديدَ من الفِلسطينيينَ الذي هُدمت بيوتهُم من قبل السلطاتِ الاسرائيليّة نظراً لعدم حيازتهِم على تصاريحَ للبناء، تلك التصاريحُ التي لطالما عقّدت بلديّة القدسِ من أجراءاتِ الحصولِ عليها من قبلِ الفلسطينيين بالدرجة الأولى .
لقد أصغيتُ لروايتكَ المُتعلّقة بهذا الصراعِ وقرأتُ مؤلّفاتٍ ومذكّراتٍ عديدة لمؤرّخينَ وأدباءَ فلسطينيين، لذلكَ أريدُكَ أن تكونَ على قناعةٍ تامّةٍ بأنّ الروايةَ الفلسطينية لهذا الصراع تُلازمني دوماً. ولكن ، ولكي أكونَ صريحاً معك ، فإن تفهّمي لروايتكَ لا يعني فقداني لتعاطفي وحبّي تجاه حقيقةِ عودةِ شعبيَ اليهوديّ إلى أرضه ، كوننا نضعُ رجوعنا إلى وطنِنا في هذا السياق الدينيّ .
إنّ عودتنا إلى وطنِنا هو أمرٌ أعتزّ بهِ ، كونَ هذهِ العودة تُجسّد قصّةَ إصرارٍ وثباتٍ وجُرأة ، والأهمّ من هذا كلّه : إنّها قصّة ايمانٍ وعَقيدة . لكن من جهة أخرى ، لم يَعد بإمكاني أن أتجاهَلَ جانبكَ – الجانبَ المقابلَ لقصّة عودِتنا – والذي يعني لكَ انتهاكَ أرضِكَ واحتلالِها وتشريدَ شعبها. أريدكَ أن تُدركَ تماماً بأنّ كلا الروايتينِ لكلا الطرفين على جانبي هذا الصّراع تتواجدان بداخلي كروايتين مُتضادّتينِ لقصةٍ واحدة.
كإسرائيليينَ ، إننا نُقرّ بأننا قد تجاهلناكُم لسنواتٍ طويلة ، لقد عاملناكُم كما لو كنّا لا نَراكُم ، كما لو انكّم غيرُ موجودونَ أبداً ، تماماً كما تجاهلَ العالمُ العربيّ حقّ اليهودِ في التعريفِ عن أنفسهِم كشعبٍ يَستحقّ سيادةً وطنيّة ، لذا فقد تجاهلنا حقّكُم كفلسطينيينَ في التعريف عن هويّتكُم الوطنية كشعبٍ مستقلّ رغم انتمائِه للأمّة العربية . لهذا فإن حلّ هذا الصراع لا يستوجبُ منا الاعتراف المتبادلَ بحقّ كلا الجانبين في تقرير المصير فقط ، بل يستوجبُ أيضاً الاعترافَ المتبادلَ بحقّ كل طرفٍ من الأطرافِ في التعريفِ عن هوّيتِه الوطنيّة التي تعبّرعنه.
وليكُن بمعلومِك يا جاريَ العزيز ، فقد بدأ يتجّهُ الكثيرُ من الاسرائيليينَ نحو قبولِ فكرةِ حقّ الفلسطينيين في التعريفِ عن هويّتهِم الوطنيّة التي تعبّرعنهُم. فبعدَ اندلاعِ الانتفاضةِ الأولى في أواخرِ الثمانينيّات من العقد المُنصرِم ، اصبحَ الكثيرُ من الاسرائيليين من أبناء جيلي على قناعةٍ تامّة بأنّ اليسارَ الإسرائيلي كانَ مُحقّاً منذ وقتٍ طويل حينَ حذّرَ من العواقبِ الكارثيّة لاحتلالِ الضّفة الغربيّة ، ليسَ على الفلسطينيين فقط، بل على الإسرائيليين أيضاً. لقد أدرَكنا لاحقاً بأن ثمَنَ تطبيقَ ادّعاءنا التاريخيّ بأحقيّتنا في السيطرة على كاملِ الأرضِ من النّهرِ إلى البحر كانَ ثمناً باهظاً. لقد أدرَكنا بأننا لن نَستمرَ في كوننا دولةً ديمقراطيّة تحكُمُها القيم الأخلاقيّة اليهوديّةِ طالما تواصلَ احتِلالُنا لشعبِكُم ، وليكُن بمعلومكَ أيضاً بأننا نحنُ أنفسُنا لم نمتلكِ أيّ نيّة لاحتلال شعبِكُم. إنني أكتبُ لكَ وكلّي أملٌ بأنك تُدركُ تماماً عدم وجودِ أيّ نيّةٍ لديّ لتجاهلِ أو انكار حقِّكَ أو ألمِكْ.
بطبيعةِ الحال ، وفي تلكَ الفترة ، واصلَ الكثيرٌ من الاسرائيليين تبنّي الفكرة القائمةَ على كونِ الجانبِ الإسرائيليّ محقاً كل الحقّ في ادعائاتهِ وحجّتهِ التاريخية ، مُنكرينَ بذلك أيّ أحقّيّةٍ تاريخيّة للفلسطينيينَ في الوجودِ على هذه الأرض ، لكن في الوقت نفسه ظهرَتْ نسبةٌ لا يستهانُ بها من الشعبِ الاسرائيليّ التي تفكّرُ بطريقة مُختلِفة تماماً.
آنذاك ، ظهرَ معسكرٌ من ” الاسرائيليّينَ الذينَ يسيطرُ عليهِمُ الشعورُ بالّذنبِ “. آمنَ هذا المُعسكرُ – وأنا من ضِمنِهِم – بأن مسؤولية مدّ يدِ السّلامِ للفلسطينيينَ تقعُ على عاتقِ دولةِ إسرائيلَ كونها قوّةً مُحتلّةً ، تلكَ الفِكرةُ التي يجبُ أن تطبّقِها إسرائيلُ على أرضِ الواقعِ من خلالِ طرحِها لخطّة سلامٍ حقيقيةٍ مع الفِلسطينيين. ولهذا السّبَب ، فقد وقَفنا جميعاً خلفَ رئيس الوزراءِ الإسرائيليّ إسحق رابين حينَ مدّ يدهُ وصافحَ ياسرعرفات في باحةِ البيتِ الأبيضِ في الثالث عشر من أيلول عام 1993 ، مُعلنينَ بذلكَ انطلاقَ مباحثاتِ أوسلو للسّلام.
وفي الشهر ذاته – أيلول – من سنةِ 2000 اندلَعَت الانتفاضةُ الثانية ، حينَها قتلُ وأصيبَ الآلافُ من الإسرائيليّينَ في الشوارِعِ الإسرائيليّة ، في الوقتِ نفسِه تعرّضَ عددٌ أكبرُ من الفلسطينيين للقَتلِ والإصابة في المناطق الفلسطينية ، فيما أصبحَت هياكلُ الباصاتِ الإسرائيليّة التي تعرّضَت لعمليّات التفجير جُزءاً من المَشهدِ الإسرائيليّ آنذاك . يُمكننا القولَ بأن المشاهدَ المؤلمةَ التي شهدناها في تلكِ الفترة بدأت بالتلاشي شيئاً فشيئا، إلا أنّ هذه القصة لا تزال محفورةً في مُخيلتي حتى الآن.
بدأت هذه القِصة عندما أقدمَ انتحاريّ فلسطينيّ على تفجير نفسه في مَقهىً بجانبِ مكتبي ومكانِ عملي في القدس ، فأدّت هذه العمليةُ الانتحاريّة إلى مقتلِ أبٍ وابنتِهِ عشيّةَ حفلِ زفافِها الذي كان مُقرّراً في اليوم التالي ، فجاءَ الناسُ مُعزّينَ بدلاً من أن يكونوا مُهنّئينَ ، واجتمعَ الناسُ في جنازتِها بدلاً من أن يجتمعوا في حفلِ زفافها. لقد كانَت تجمعُني صداقةٌ ببعضِ أفرادِ تلكَ العائلة ، لذا زرتُ منزلهُم مؤدّياً واجبَ العزاءِ ، فكانَت زوجةُ الفقيدِ وأمّ أبنائِهِ المفجوعةُ من هولِ ما حدث تستقبلُ المعزّينَ وتواسيهُم ، مؤكدّة لَهُم صَبرها في محنتِها وإيمانها العميق وإصرارها على البقاء ،عندها فقط أدركتُ بأنه لن تُقتلعَ الأمّة اليهودية مِن أرضِها مرةً أخرى.
لقد ربّيت وزوجتي سارة ابنين كانا في سِنّ المراهقةِ وقتَ اندلاعِ الانتفاضة الثانية ، أذكر جيّداً كم داومتُ على تقبيلهِم وتوديعهِم كل يوم صباحاً قُبيل مُغادرتي المنزل ، مُتسائلاً بيني وبينَ نفسي فيما إذا كنتُ سأراهُم مجدّداً أم لا.
ولسوءِ الحظ ّ، فقد وجدَ ابناي لمراتٍ عديدة أنفسَهُما بالقُربِ من مشاهدِ العُنف، إحدى هذه المشاهد كان الاعتداءُ الذي راحَ ضحيّتهُ شاب اسرائيليّ يبلغُ الثلاثينَ من العُمرِ يُدعى كوبي ماندِل، والذي كانَ زميلَ ابني غابرييل في إحدى المخيّمات الصيفية ، حيثُ رُجمَ كوبي حتى الموت فيما عُثر على جُثّتِهِ في إحدى الكهوف. تشوّهَت ملامِحُ كوبي إثرَ هذا الاعتداءِ ولم يكن بالإمكان التعرّف على جثّتِهِ لولا تحليلُ الحمضِ النوويّ.
يختلفُ الإسرائيليونَ والفلسطينيونَ بشدّة فيما يتعلّق بقضيّةِ المسؤوليةِ عن فشلِ مباحثاتِ أوسلو للسّلام ، وممّا لا شَكّ فيهِ فإنَ الجدَلَ حول هذه المسألةِ قد يستمرّ لسنواتٍ عديدة قادمة. إن غالبيةَ الشعبِ الإسرائيليّ – ومِن ضِمنهِم أنا شخصيّاً – تؤمنُ بأنّ القيادة الإسرائيليّة قد بَذلَتْ ما في وسعِهِا لإحلالِ السلام آنذاك ، في الوقت الذي رفَضَت فيه القيادةُ الفلسطينيّةُ التنازُلَ وتوجّهت – عَوضاً عن ذلك – لخيارِ العُنفِ بهدفِ إضعافِ إسرائيل واجبارها على التنازلِ أكثرَ وأكثر. إنه لمنَ المهم جداً أن تدرك يا جاري العزيز ، بغضّ النظر عن مدى معارضتك لوجهةِ النظرِ الإسرائيلية فيما يخصّ فشَل مباحثاتِ أوسلو ، بأنكَ لن تتمكّنَ من فَهمِ المُجتمعِ الإسرائيليّ حالياً دونَ أن تأخذَ بعينِ الاعتبارِ كيف أثّرت تجربةُ أوسلو بشكلٍ عميقٍ في صياغةِ الرؤيةِ الإسرائيليّة ورسمِ سياساتِها.
لقد جسّدت الانتفاضةُ الثانيةُ لحظةً خابَ فيها أملُنا في القيادةِ الفلسطينية ، وتحديداً نحنُ ” الإسرائيليون الذين يسيطرُ عليهُم الشعورُ بالذّنبِ “، فَبدأنا نشكّكُ في صِدقِ نوايا القيادةِ الفلسطينيّة تجاه السلام ، فنحنُ لم نتوصّل لهذه القناعة نتيجةً لما تعرّضنا لهُ من اعتداءاتٍ وعنفٍ فقط، بل توصّلنا لتلكَ القناعةِ نتيجةً لكونِ موجةَ العُنفِ تِلكَ جاءَت بعد أن قدّمت إسرائيلُ عَرضاً نعتقدُ وبكلّ صدقٍ بأنّهُ كان عرضاً جادّاً لانهاءِ الاحتلالَ . وإن أرَدنا أن نكونَ دقيقينَ أكثر ، فقد قدّمت إسرائيلُ عَرضَينِ لا عرضاً واحداً لانهاءِ احتلالِها للضفّة الغربيّة وقِطاعِ غزة.
ففي كامب ديفيد ، وبالتحديد في تموز عام 2000 ، كانَ رئيسُ الوزراءِ الإسرائيليّ حينها ايهود باراك أوّل رئيسَ وزراءٍ إسرائيليّ يوافقُ على قيامِ دولةٍ فلسطينيّةٍ في الضفّة الغربية وقطاعِ غزّة ، بحيثُ تكونُ عاصمتُها أحياءٌ عربيّة في القدس الشرقيّة ; الأمرُ الذي يعني أن إسرائيلَ كانت ستقومُ باجتثاثِ عشراتِ المستوطنات وطَردِ عشراتِ الآلافِ من المستوطنينَ من بيوتهِم. لم يكُن هناكَ جدارٌ فاصلٌ آنذاك ، وأي منطقةٍ فاصلةٍ كانَت ستُبنى حينَها ، كانَت ستهدفُ بالدرجةِ الأولى إلى فصلِ المناطقِ التي ستخضعُ للسّيادةِ الإسرائيليّة عن المناطق التي ستخضعُ للسّيادةِ الفلسطينيّةِ . وحتماً ، كان بالإمكانِ التخلّصُ من َ كلّ مظاهرِ الظلمِ التي رافقَت وجودَ الاحتلالِ لو قبِلَ الفلسطينيون بهذا العَرضْ ، إلا أنّ ياسر عرفات رَفَضَ هذا العرضَ جُملةً وتفصيلاً دون أن يَطرحَ بديلاً لخطّة السلامِ تلك.
بَعد فشلِ محادثاتِ كامب ديفيد ، تواصلُ الجَدلُ بين الإسرائيليين والفلسطينيين حولَ مدى جدّيّة الطرحِ الذي قدّمته إسرائيل كخطة للسلام ، إلّا أنهُ وبعد مضيّ ستة أشهرٍمن طرحِ تلك الخطة ، بالتحديد في كانون الأول من عام 2000 ، قدّم الرئيسُ الأمريكيّ بيل كلينتون خطّةً جديدةً للسّلام ، تتضمّنُ زيادةِ مساحةِ الأراضي التي وافقَ على منحها رئيس الوزراءِ الإسرائيلي ايهود باراك في مباحثات كامب ديفيد لإقامةِ دولةٍ فلسطينية ، لتُصبحَ 95% بدلاً من 91% ، إضافة إلى تبادلٍ للأراضي كنوعٍ من التعويضِ ، عدا عن شقَ طريقٍ يَصلُ الضّفة َالغربيّةَ بقطاع غزة جُغرافياً ، لكن مرة أخرى ، وافقَ إيهود باراك فيما رفضَ ياسر عرفات هذا العرض ; الأمرُ الذي دفع بالرئيس الأمريكي بيل كلينتون لأن يُلقيَ اللّوم على ياسر عرفات ويحمّلهُ مسؤوليةَ فشلِ مباحثاتِ السلام آنذاك.
لقد كانت تلك لحظةَ انكسارٍ وخيبةَ أملٍ للكثير من الإسرائيليينَ الذين لطالما آمنوا بامكانيّة حلّ هذا الصراع . أنا شخصياً أعرفُ الكثير من المواطنين الإسرائيليين الذين بذلوا جُهداً لا يُستهانُ به لاقناع زملائهِم في العمل – على سبيل المثال – بوجودِ نيّة صادقةٍ لدى القيادة الفلسطينية بتحقيق السلام ، وأن كلّ ما علينا فِعلهُ كاسرائيليينَ هو طرحُ خطة سلامٍ جادّة ، وبمُجرّد طرحِ تلك الخطة فإن شعبَك ، يا جاري العزيز ، سيوافقُ عليها بكلّ تأكيد. لقد تمثّلَت مأساةُ اليسار الإسرائيليّ في نجاحهِ بِإقناعِ الغالبيةِ العظمى من الرأي العام الإسرائيليّ بأهميّة الوثوقِ بتوجهّاته السياسية القائمةِ على ضرورة طرحِ خطة سلامٍ جادّة مع الفلسطينيين ، لكن لاحقاً ، انفجرت خطة السّلامِ تلكَ في وجوهنا، انفجرَت بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى.
وفي عام 2008 عرضَ رئيسُ الوزراءِ الإسرائيلي آنذاك ايهود أولمَرت خطّة سلامٍ مشابهة تتضمّنُ انسحاباً كاملاً من الضفة الغربية وقطاع غزة ، اضافةً إلى تبادلٍ للأراضي ، إلا أننا لم نتلقَ أيّ ردٍ من الرئيسُ الفلسطينيّ محمود عباس على تلك الخطة . حالياً ، وبناءاً على تجاربِنا السّابقةِ في طرحِ خططِ سلامٍ ورفضِها من قبلِ الفلسطينيين ، ينظرُ المواطنُ الإسرائيليّ العادي إلى اليسار الإسرائيليّ على أنّهُ بائعٌ للوهم ، ذلكَ المواطنُ الذي يتجلّى طموحهُ في العيشِ بأمنٍ وأمان في دولته ومع جيرانهِ كأيّ مواطنٍ يسكنُ أيّ دولةٍ أخرى . في الوقتِ نفسهِ ورغمَ كلّ هذه التجارِب ،لا يَزالُ اليسارُ الإسرائيليّ مُصرّاً على صِدقِ نوايا القيادة الفلسطينية في التوصّل إلى اتفاقِ سلامٍ مع الإسرائيليين .
ومَهما بلغَت درجةُ العنفِ أثناء الانتفاضةِ الثانيةِ من ترويع وفظاعة ، تبقى الدوافع الخفيّة وراء موجةِ العنفِ تلكَ مُقلقةً ومروّعةً للإسرائيليينَ أكثر من موجةِ العُنف نفسها ، فهذهِ الدوافع كانَ أساسها تجاهلُ حقّ الشعبِ اليهوديّ في الوجود ، وتجاهلِ حقّهِ في السّيادة على أي بقعة من هذه الأرض التي نتشاركهُا معاً ، اضافةً إلى تجاهل فكرة ومبدأ تشاركِ الأرض من قبل كلا الشعبين ، الفلسطيني والإسرائيليّ. لقد عايشنا موجةً من العنفِ التي جَسّدت تعبيراً صريحاً عن المُشكلةِ العميقةِ المُتمثّلةِ في وجودِ نيّةٍ لإزالةِ الوجودِ اليهوديّ مِن على هذه الأرض. لم تكُن الانتفاضةُ التي شهدِناها موجّهةً ضدّ الاحتلالِ فقط ، بل كانت انتفاضةً موجّهةً ضدّ وجودِ دولةِ إسرائيلَ بأكملِها.
لطالَما سمعتُ العديدَ من الفلسطينيين يُردّدون القولَ بأنهُم لا يملكونَ أيّ خيارٍ آخرَ سوى مواجهةِ الاحتلالِ بالعُنفِ. في الوقت نفسه، ينظرُ الإسرائيليون إلى هذا الموضوعِ من زاوية مُختلفة تماماً. فمِن وجهةِ نظرنا ، فإنّ الاحتلالَ لم يَخلِقْ العُنفَ ، إلا أنّ العُنفَ هو الذي أطالَ من عُمرِالاحتلال ، حيثُ رسّخ العنفُ الفلسطينيّ قناعةً لدى الإسرائيليينَ مفادُها بأنهُ مهَما قدّم الإسرائيليون من تنازلاتٍ سيبقى سيفُ العُنفِ الفلسطينيّ مسلّطاً على رقابِ الإسرائيليينَ ، فيما جَسّدَت غزّة مثالاً حيّاً يؤكّدُ هذه القناعة ، حيثُ أطلقَت آلافُ الصواريخِ الفلسطينيّةِ تجاهَ الأحياءِ الإسرائيليّة المحاذيةِ للحدودِ رغم الانسحابِ الإسرائيليّ الكاملِ عام 2005 وإزالةِ كافّة المستوطناتِ و القواعد العسكريّة الإسرائيليّةِ من قطاع غزة.
وعدا عن ذلك ، لم تتوقّف القيادةُ الفلسطينيّة عن اقناعِ الشّعبِ الفلسطينيّ بعدمِ وجودِ أيّ شرعيّة تاريخيّة لإسرائيلَ كدولةٍ على هذه الأرض. لكنّ المفارقةً في الموضوع تكمنُ في كونها القيادةَ الفسطينيّة نفسَها التي أقنعت الجانبَ الإسرائيليّ بأن هذا الصراعَ لا يتمحورُ بالأساسِ حولَ الحدودِ أو المستوطناتِ أو حتى القُدس والأماكن المُقدّسة ، بل إنّ جوهرَ هذا الصراع ِ يَكمنُ في حقّ الشعبِ اليهوديّ في الوجودِ على هذه الأرضِ والاعترافِ باليهودِ كسكّانٍ أصليّينَ لهذه البلاد، أيّا كانَت الحدودُ التي تُحيط بهِم.
حقيقةً ، لقدّ أثّر احتضارِ اليسارِ الإسرائيليّ وانخفاضُ شعبيّتهِ في الشارعِ الإسرائيلي على سياساتِ إسرائيلَ لقرابةِ جيلٍ كامل، ومَع الفشلِ الذريعِ لمحادثاتِ أوسلو ، حلّ اليمينُ الإسرائيلي مكانَ اليسارِ وأمسَك بمقاليدِ الحُكمِ في إسرائيل مرّة أخرى. ومَع هذا التحوّلِ الجذريّ أصبحَ مُعسكرُ اليسارِ الإسرائيليُّ الذي كان قادراً على حشدِ مئاتِ الآلافِ من الإسرائيليينَ في الشوارع أوائلَ التسعينياتِ عاجزاً عن حَشدِ بضعةِ آلافٍ حاليّاً .
وبطبيعةِ الحال، يُدركُ الكثيرُ من الإسرائيليّينَ أن مسؤوليّةَ الوصولِ إلى هذا الطريقِ المسدودِ لا تقعُ على عاتقِ الجانبِ الفلسطينيّ وَحدَهِ ; فالجانبُ الإسرائيليّ يتحملُ جزءاً كبيراً من هذه المسؤوليّة أيضاً. فعلى سبيلِ المثالِ، لقَد واصَلنا بناءَ المُستوطناتِ في الوقت الذي كانَت تجري فيه مباحثاتُ أوسلو بين الجانبين ، الأمرُ الذي زَعزَع مِن ثقةِ الفلسطينيينَ بمدى التزامِ الجانبِ الإسرائيليّ بالحلّ ، وَعزّزَ مِن شعورِ الجانبَ الفلسطينيّ بالضّعف. ولكن ، عندما حانَت اللحظةُ الحاسِمةُ لايجادِ حلّ يُنهي هذا الصراع ، رأينا القيادةَ الإسرئيليّة تقولُ نَعَم ، بينما رأينا القيادةَ الفلسطينية تقولُ لا.
إنني استذكرُ هذه الأحداثَ الهامّة كونَها غيّرَت توجّهاتَ المُجتمعِ الإسرائيليّ كلّياً، بَل وغيّرَت توجهاتي أنا شخصياً ، عدا عن كونها تفسّرُ لكَ مدى العِبءِ الأخلاقي الجاثمِ على صَدري ، ذلكَ العبءُ المتمثّلُ في الاحتلالِ من جهة ، والجدارِ الموجودِ أمامَ نافذتي من جهةٍ أخرى.
ومع الأسفِ الشدّيد، فقد انتَهت تلكَ الحُقبةُ التي كنتُ أزورُ فيها الأراضي الفلسطينيّة، كونَ تواجدي هَناكَ يُعرّضُ حياتي للخطر ، فدخولُ الإسرائيليينَ إلى الأراضي التابعةِ للسلطة الفلسطينية أصبحَ أمراً محفوفاً بالمخاطرِ ، ووجودُ المواطنِ الإسرائيليّ في المناطقِ الفلسطينيّة يعني مجازفتهُ بحياتِه ، لذلكَ منعَت الحكومةُ الإسرائيليةُ مواطنيها من دخولِ الأراضي الفلسطينيّة ، مُنهيةً بذلك كلّ العلاقاتِ التي نسجتُها مع أصدقائيَ الفلسطينيينَ في السابق.
وفي الوقتِ الذي كانَت تتهافتُ فيهِ القنابلُ البشريّة من الجانبِ الفلسطينيّ بداية سنة 2000 ، فإنني – وكغالبيّة الشعبِ الإسرائيليّ – دعمتُ وبشدّة بناء جدارٍعازلٍ يَفصلُ الضّفة الغربيةَ عن إسرائيل. لقد كانَت تلكَ محاولةً يائسةً بعد أن نفذَ صبرُنا ونحنُ نحاولُ وقفَ العملياتِ الانتحاريّة من الضفة الغربية داخلَ مناطق السيادة الإسرائيليّة ، تلك العملياتُ التفجيريّة التي لم نعُد قادرينَ على احتمالها بعد استهدافِها للحافلاتِ والمقاهي الإسرائيليّة في كلّ مكان. وقَد بدا جلياً أن فكرة الجدار كانَت مُجدية ، فمَع بناءِ الجدار العازلِ توقّفَت العملياتُ الانتحاريّة تماماً، الأمر الذي جعلَني أرى في فكرةٍ وجودِ الجدارِ العازلِ وسيلةً تحقّقُ الأمانَ لأطفالي وضمانةً لبقائي في الشرق الأوسط. لذلك يتملّكني الشعورِ بالتناقُض، فمن جهةٍ أشعرُ بأني مُمتنٌ لهذا الجدار الذي أكرهُه ، إلا أني من جهةٍ أخرى لا أملكُ أي وسيلةٍ أضمنُ بها أمني وأمانيَ سوى هذا الجدار.
جاريَ العزيز ، لقد أرهقَتني الانتفاضةُ الثانيةُ وأضعفَت من قُدرتي على المَضيّ قُدُماً ، لم أعتقِد بأنهُ باستطاعتي أن أكملَ تلكَ الرّحلة بأي شكلٍ من الأشكال. لقد فقدتُ كل رغبةٍ في سماعِ قِصصكَ و حُجَجِك وحُزنَك على الإطلاقً ! كُل ما أردتُ فعلهِ هو أن أصرخُ صوبَ تلّتِك لأقول لكَ بأعلى صوتي :
لقد كانَ من المُمكنِ أن يكونَ حالُنا مُختلفاً ! فلنَتَشارَك الأرضَ معاً ولنتفاوَض ونتنازَل لبعضِنا البَعض ! انظُر إليّ ! حدّق بي ! اعتَرِفْ بوجودي ! مثلما تمتلكُ قصّةٌ تُريدُني أن أصغيَ لها ،عليكَ أن تعلمَ بأنّ لديّ قصّةٌ أنا الآخرَ وعليكَ أن تُصغيَ لها !
في الواقع ، كلّما شاهدتُ الصورةَ التي يصوّر بها الإعلامُ الفلسطينيُ الشعبَ اليهوديّ وروايتَهُ التاريخيّة ، كلّما شعرتُ باليأس ! وبصراحةٍ ، يبدو ليَ الوضعُ في المُجتمعِ الفلسطينيّ وكأنَ إنكارَ فكرة وجودِ الشعبِ اليهوديّ وإنكارَ أحقيّتِهِم في إقامةٍ دولةٍ يهوديّة هو الأمرُ الذي يوحّدُ جميعَ وسائلَ الإعلامِ الفلسطينية بمُختلفِ ايديولوجياتّها وتوجّهاتِها. وللأسف ، فإنّ الفِكرَ نفسهُ يُنشرُ في المدارسِ والمساجدِ الفلسطينيّة أيضاً ، نفسُ الفكرِ الذي يتجاهلُ تاريخَ الوجودِ اليهوديّ على هذه الأرض ، وبأنّ الصهيونيّة هيَ محضُ كذبةٍ ليسَ إلّا . وعدا عن ذلك ، فهوَ الفكرُ نفسهُ الذي يَدّعي بأنّ المحرقةَ اليهوديّةَ – الهولوكوست – هي محضُ روايةٍ صهيونيّةٍ مُزوّرةٍ استغلّها الصهاينةُ لاستقطابِ الدعمِ الأوروبي لدولةِ إسرائيل. وبالرجوعِ إلى روايتِكَ التقليديّةِ المُتداولةِ في الجانبِ الفلسطيني ، فأنا بِنِظَرِكَ – كيهوديّ – عبارةٌ عن شخصٍ مهووسٍ بنشرِ الأكاذيبِ وعلى رأسِها روايتي التاريخيّة المزوّرة – بنظرِك – ،وأنّي مُجرّدُ لصٍ لا يَمتلِكُ أية حقوقٍ على هذه الأرض ، كائنٌ فضائيّ لا يَمتّ لهذهِ الأرضِ بأي صِلة.
ولأزيدَك من الشّعر بيتاً ، عادةً ما تصوّرُ وسائلُ الإعلامِ الفلسطينيّة اليهودَ على أنهم وحوشٌ ضارية ، فنحنُ نقفُ خلفَ أحداثِ الهجوم على بُرجي التجارة العالميّين في الولايات المتحدّة – المعروفة بأحداث الحادي عَشر من سبتمبر – ، كما وأننا تعاونّا معَ النازّيينَ أثناءَ المحرقةِ اليهوديّة ، والتي أصلاً – بحسبِ اعتقادِكُم – لم تحدُث على الإطلاق. ونحنُ أيضاً – تبعاً لوسائِلِ إعلامِكُم – نحصدُ أرواح الفلسطينيينَ ونَسرقُ أعضاءَهُم ، ونحنُ أيضاً نتلاعبُ بالطبيعةِ من أجلِ التسبّبُ بكوارثَ بيئيّة. أنني أعرفُ الكثيرَ من الفلسطينيينَ الذينَ يرفضونَ تلكَ الصورةَ الشيطانيّة التي يتمُ رسمُها في مخيّلتكِم عن اليهود بشكلٍ عام ، وهُم لا يتوانَون للحظةٍ عن الاعترافِ بحقيقةِ كوننا – على كلا طرفي الصّراع – عالقونَ بين روايتينِ مُختلفتينِ ليسَ إلا. إنني أخاطبكَ وكلّي أملٌ بأنْ تكونَ واحِداً مِن أولئكَ الفلسطينيينَ ، لكن وبحسب معرفتي بالمُجتمعِ الفلسطينيّ فإنّ مثلَ هذا التوجّهِ محظورٌ كليّاً من الظهور في وسائلِ الإعلام الفلسطينيّة التي تمثّلُ التوجّهَ العامَ للشعب الفلسطينيّ . إنني على قناعةٍ تامّةٍ بأن أيَ صوتٍ فلسطينيّ يوحي ولو بمجرّد الإيحاءِ بشرعيّة الروايةِ التاريخيّة اليهوديّة – جنباً إلى جنبٍ مع شرعيّة الرواية الفلسطينية لا كروايةٍ بديلةٍ عنها – فإنّ هذا الصوتً سيتمّ إِخراسُهُ بكلّ تأكيد، الأمرُ الذي يَطرح سؤالاً مُنطقيّاً جدّاً: كيف لنا أن نتعايشَ مع بعضِنا البعض إن كنتُ أنا غيرَ موجودٍ على الإطلاق ؟ كيف لنا أن نتعايش مع بعضنا البعض إن لم يكُن أصلاً ليَ حقٌ في الوجود ؟
ولهذا ، فإنني أرى في الجدار الاسمنتيّ الفاصلِ بيننا تعبيراً عن جدارٍ أعمَق يفصلُ بيني وبينك ، كونّنا عاجزينَ حتى عن الاتفاقِ على أبسط الأمور وأكثرها وضوحاً. إنني أعتبرُ وجوديَ هنا على هذه الأرضِ جزءاً من عودةِ سكّان البلادِ الأصليّينَ – الذينَ تمّ اجتثاثهُم منها سابقاً- إلى ديارهِم ، كما وأعتبرُ أنّ دولتنا اليهوديّة قد وُلدت من جديد بهذه العودةِ التي أعتبرها جُزءاً من عدالةٍ تاريخيّة وتعويضٍ عن ظُلمٍ تاريخيّ تعرّضنا لهُ نحنُ اليهود. إنّ كونيَ يهوديّاً يعيشُ في القدسِ تحت السّيادة اليهوديّةِ يُعدُ مَصدراً لشُعوريَ بالسُّموّ والرِّفعة ، عدا عن كونهِ مَصدراً للإلهام الدينيّ والروحيّ.
وعلى الجهةِ المُقابلة ، فإنني أرى في وجودِكَ على هذه الأرضِ جزءاً لا يَتجزّءُ من وجودِ الأرضِ نفسِها، الأمرُ الذي يجعلني أعي تماماً سببَ تشبيهِ الفلسطينيينَ لأنفُسِهِم بشجر الزيتون ، وهو تعبيرٌ قويّ وموحي، إذ يُعبّرُ تماماً عن جذوركَ الضاربةِ في عمقِ هذهِ الأرضِ وحُبكَ الحقيقيّ لها.
لكن يبقى السؤالُ المُلِحّ يا جاري العزيز : ماذا عنك ؟ كيف تراني ؟ وماذا تَعتَبرُني ؟ هَل أُعدّ أنا بنظرِكَ غازياً مُستعمِراً وجزءاً من غزوٍ استعماريّ لهذه الأرض؟ هل تعتبرُ قدوميَ هُنا خطأ تاريخياً وتعدياً دينياً عليك ؟ أم أنّك ترى في الوجودِ اليهوديّ على هذه الأرضِ جُزءاً من نسيجها الأصليّ؟ هَل بإمكانِكَ أن تنظُر إلى حياتي هُنا كشجرةِ زيتونٍ تمَ اقتلاعُها منذ زمنٍ طويلٍ ثم عادَت إلى تُربتِها مرةً أخرى ؟
جاري العزيز ، يبدو ليَ وكأن هذا الجدارَ الفاصلَ بيننا سيتوغّلُ أكثر وأكثرَ في هذه الأرضِ وسيتعمّقُ أكثرَ في تلالِها وبيوتِها وحتى مصدرِ نورِها كلّما اشتدّ الصراعُ القائمُ بينَنا. عندما يَختفي الجدارُ في مخيلتي فإنّهُ يَختفي مرةً واحدة ، فعينيَ اعتادَت على عدمِ رؤيةِ هذا الجدارِ ، وشقّتي مرتفعةٌ بدرجةٍ كافية لتُمكنّني من رؤية ما وراء ذلك الجدار ، لذا فإني أرى تلكَ الصحراءَ المُمتدّة ما وراء الجدار لدرجةِ أنني أتفادى الحيّز الضيّق الذي أراها من خلالهِ وأستَمتعُ بامتدادِها الواسع. ولكن ، لا يزالُ هذا الجدارُ أمراً مُهيناً ، أمراً يجسّد تجاهُلَاً لأمليَ الصادق الذي أتمناهُ لدولةِ إسرائيل ، وهوَ أن تجدَ اسرائيلُ مكاناً لها بينَ جيرانها يوماً منَ الأيام.
لسنواتٍ عديدةٍ تَبِعت الانتفاضةَ الثانية ، قلتُ لنفسي – كغالبيّة الشعبِ الإسرائيليَ – : لقد مدَدنا أيدينا للسّلام مرارً وتِكرارً لكننا قوبلنا بالرّفضِ بأبشعِ الطُرُق وأشدّها وحشيّة ، لكنّ الأقوالَ أسهلُ بكثيرٍمن الأفعال . ولأكون دقيقاً أكثّرَ يا جاري العزيز ، إنّهُ لأمرٌ محظورٌ عليّ كانسانٍ يهوديّ مُتديّنٍ أن أقبلَ باستمرار هذه الهاوية الموجودة بيني وبينك ، أنهُ لمن المحظورِ عليّ أيضاً أن أمدّ يديّ للسلامِ بينما أنا فاقدُ للأملِ بإمكانيّة تحقيقِ ذلكَ السلام ، الأمر نفسهُ الذي أكّدَ عليه القرآن أيضاً حين شدّد على أنّ فقدانَ الأملِ واليأسَ يُعادلُ الكُفر بالله.
وعلاوةً على ذلك، فإنّ التشكيكَ في إمكانية تحقيقِ المصالحة وحلّ الصراعِ يُجسّدُ استخفافاً بقدراتِ الله ، بالتحديِدِ بِقدرتهِ على صناعةِ المُعجزاتِ ، خاصة عندما يتعلّقُ الموضوعُ بهذه الأرض، أرضِ المُعجزات. فمِن منظور الديانةِ اليهوديّةِ ، فإن التوراة تأمرني بصريحِ العبارةِ :” ابحَث عن السلامِ واسعى إليه ” حتى ولو كانَ الوصولُ إلى ذلك السّلامِ مُستحيلاً ، وربّما تكونُ هيَ تلكَ اللحظةُ المناسبةُ للبحثِ عن السلام ; اللحظةُ التي يكونُ فيها صنعُ السّلامِ مُستحيلاً.
ولهذا يا جاريَ العزيز، فإنني أخاطِبُكَ وكلّي أملٌ بأن سَرديَ الصّادقَ لقصّتي سيؤثرُ فيكَ وسيلامسُ مشاعِرَكَ لدرجةٍ تُساعدُنا في الوصولِ إلى تفهّم ، وحبذا لو كان اتفاقاً ، بيني وبينك. إنني أرغبُ بأن تَتحدّثَ حكومَتي الإسرائيليّةُ بلُغةِ الأملِ والتعايشِ والمسؤولياتِ الأخلاقية ، لا بِلغةِ الحديدِ والنارِ والتهديد والوعيدِ. كما أنّني أرغبُ أيضاً بأن تتوقفَ حكومَتي عن بناء المستوطناتِ والتوسّع بها، لا لأجلِكَ فقط ، بَل لأجلي أنا أيضاً ، إلّا أنّ حكومةُ اليمينُ الإسرائيليّ التي تُمسكُ بزمامِ الحُكمِ حالياً – خلال فترة كتابتي لهذا الكتابِ – لا تبدو وكأنها مُستعدّة لتبني تلك الرؤية.
إنّ أَمليَ الآن ، خاصةً ونحنُ نشاهدُ ما يحدثُ من دمارٍ وحروبٍ مروّعة في سوريا ومناطقَ أخرى في الشرق الأوسط ، بأن يَجسرَ الفلسطينيونَ والإسرائيليونَ تلكَ الهوّة الفاصلةِ بينَهُم ، وأن يختاروا الحياة على الموت ، ولكن حتى يتحقّق هذا الأملُ علينا أن نُدركَ جيّداً أحلامَ ومَخاوفَ بَعضِنا بعضاً.
لقد زرتُ المناطقَ الفلسطينيّة مرّتين ، في المرةِ الأولى زُرتُها كجنديّ ، لكن في المّرةِ الثانية زُرتُها كمَدنيّ ” حاجّ ; كَوني أرفضُ أن تقتصرَحدودُ العلاقةِ بيني وبينكَ على كوني مُحتلاً لأرضِك. لهذا ، فإن لديّ الكثير لأقولَهُ عمّا خُضتُهُ خلالَ تلكَ التجربة، لكن ما أودّ قَولَهُ حالياً بأني – من جهة – لم أعد أحتملُ تبعاتَ الاحتلالِ الجاثم على صدورِ جيراني ، والذي يبدو وكأنه سيدومُ إلى الأبد. ومن جهة أخرى ، لم أعد أحتملُ الاحتلالَ الذي باتَ يشكّل عِبءاً على مصداقيّتي الأخلاقيّة كيهوديّ . إن وَصفي بالـيهوديّ يَعني التزاميَ بالأعرافِ والتقاليدِ اليهوديّة العريقةِ القائمةِ على المُثُل العليا والقيمِ العظيمة كالعدلِ والعدالة ، إذ مثّلَت هاتان القيمتانِ جوهرَ الديانةِ اليهوديّة وتبوّءَتا مكانة خاصةٍ فيها ، كما وضَعَت الديانةُ اليهوديّة قيمة الحياةِ الانسانيةِ بالصّورة التي خَلقها الخالقُ في صميمِ نظرتِها لهذهِ الحياةِ.
إنّني أبعثُ لكَ بهذه الرسائلِ لأواصلَ رحلتي إليك ، لكن مع وجود اختلافٍ هذه المرة. لقد كانَ هدفي أن أتمكّن من فَهمِك عندما بدأتُ رحلتي وزرتُ المناطقَ الفلسطينيّة وتعرّفتُ على المُجتمع الفلسطينيّ ، وخلالَ الجُزء الأكبر من هذه الرحلة ِلم أناقِشك في أيّة تفاصيلٍ لدرجةِ أنني لم أحدّثكَ حتى عن نفسي ; إذ كانَ أكبرُ همّي هو أن أصغيَ إليك ، إلا أنّي أرغبُ الآن في أن أشاركَك بَعضاً من التفاصيلِ المُتعلّقةِ بعقيدتي وقصّتي ، واللتان تتشابكانِ مع بعضهما البعض إلى حدٍ كبير.
وبطبيعةِ الحال ، يبدو وكأنّ كلانا يَسعى جاهِداً لإقناعِ الآخر بروايةِ جانبهِ من هذا الصراع ، فكلانا يعيشُ بعمقٍ في تفاصيلِ هذه الرواية المتجذّرة في وجوده، بالتالي فهي تُعرّفُ هويّتنا الجماعيّة والشخصيّة ، الأمرُ الذي يَعني أن تفريطنا وعدم تشبّثنا في روايتِنا لهذا الصراع يُعدّ بمثابةِ الخيانة. لكن ، ما نحنُ بحاجةٍ إليه فعلياً هو التدقيقُ في الرواياتِ التي نَتداولُها في مجتمعاتنا عن بعضِنا البعض ، ففي تفاصيلِ تلكَ الروايات فَرَضَ كلّ منّا على الآخرِ أسوأ الكوابيس التاريخيّة وصوّرَ الطرف الآخر بأبشعِ الصّوَر. فبالنسبةِ لك يا جاريَ العزيز ، نحنُ المستعمرونَ الصليبيّونَ ، وبالنسبة لنا ، أنتمُ الأعداءُ الذي يسعونَ لارتكابِ إبادةٍ جماعيّة بحقّنا بهدفِ تدميرِ الشعب اليهوديّ وإزالتِهِ من الوجود. هَل بإمكانِنا – عوَضاً عن نشر تلكَ الكوابيسِ عن بعضنا البعض – أن نرى شعبين مَراّ بالكثيرِ من الصدماتِ والتجاربِ المروّعةٍ ، وأن نرى في كلّ ما يقومُ بهِ الشعبانِ محاولةً للتشبّثِ – بكلّ ما أوتيا من قوّة – ببقعةِ الأرضِ المُمتدّة ما بين نهرِ الأردن والبحر الأبيض المتوسّط ؟! وهل بامكانِنا أن نُدركَ أنه لن يجدَ أيّ من الشعبينِ سلاماً أو عدالةً حتى يؤمنَ كلّ طرفٍ بمصداقيّة مطلبِ الطرف ِالآخر حينَ يطالبُ بتحقيقِ العدالة ؟
إنني لا أؤمنُ بامكانيةِ تحقيقِ السّلامِ دون أن يكونَ هناكَ – على الأقلّ – محاولةٌ للوصولِ إلى تفهّمٍ مُتبادلٍ بين كلا الجانبين، وإن لَم يتمّ ذلك ، فإنّ العلاقةَ بينَ تلّتي وتلّتِك ستبقى علاقةً هشّةً مُتضعضعةً على أرضِ الواقعِ مَهما وقّع قادتُنا منِ اتفاقياتِ سلامٍ رسميّة مُستقبلاً . سوف تكونُ تلكَ اتفاقيّاتَ سلامٍ باردةً تعبّرعن سلامٍ وهميّ خالٍ من أي معنى للمحبّة ، سلاماً إما سيتلاشى مع الوقت ، أو لربّما يتمّ تصفيتُه ، وبأحسن الأحوال ، فإن لم نتفقّ على أيّ شيءٍ وواصلنا انفصالَنا عن بعضنا البعض ، فإن التلاصُقَ الجُغرافيّ الحميمَ بين تضاريسِ أرضِنا كفيلٌ بأن يجعلَ من الفصلِ الكلّي بين أرضي وأرضِك أمراً مُستحيلاً. لهذا ، علينا أن نتعلّمَ كيف نعيشُ مع بعضِنا البعضَ حتى نتمكّن من الحياةِ على هذه الأرض.
جاريَ العزيز ، لا يختلفُ عاقلانِ على أن الانفتاحَ على روايةِ الطرفِ الآخر للصّراعِ ورؤيةَ الاختلافِ والفروقاتِ بينَ روايَتي الطرفين هوَ أمرٌ سهلٌ على المُنتَصِرِ ، إلا أنّه أمرٌ صعبٌ على المهزوم الذي تعرّضَ – ولا زال يتعرّضُ – للاحتلال. فبأيّ حقٍ أطلُبُ منكَ أنا – كمُحتلٍّ – اعترافاً مُتبادلاً ؟ ربَما لكونيَ مُحتلّاً ذا عقليّةٍ مُختلفةٍ بعض الشيء نظراً للمخاوفِ التي تتملكّني من قضيّة الانسحابِ والرجوعَ إلى حدودِ عام 1967 ، تلك الحدود الممتدّة على طولِ تسعة أميالٍ والتي حدّدت حدودَ إسرائيل قبل اندلاع حربِ الأيام الستة . فالانسحابُ من هذه الأراضي قد يعني إضعافَ قُدرَتي على الدّفاعٍ عن نفسي إلى درجةٍ قد تقودُ إلى هلاكي ، خاصةً وأننا نعيشُ في منطقة الشرق الأوسط التي تشهدُ أوضاعاً غير مُستقرةٍ من التشتّتُ والخراب مؤخراً. مرةً أخرى ، إن الانسحابَ من هذه الأراضي لا يعني تهديداً بانحِسارِ قوّتي فقط ، إلا أنه تهديدُ يمثّلُ خطراً شديداً على وجودي كيهوديّ في هذه المنطقة.
لقَد أدركتُ منذ وقتٍ طويلٍ أنّ مزاعِمي التاريخيّة وتطلّعاتيَ وحنينيَ الدينيّ الذي يَربطني بهذه الأرضِ لا يُبرّرُ استحواذيَ على كاملِ الأرضِ على حسابِ شعبٍ آخر. ولهذا ، وبغضّ النظرِ عن حجمِ الألمِ الذي سيسبّبُهُ اقتسامُ الأرضِ فيما بينَنا ، إلا أنني أقبلُ هذهِ القِسمةَ ، تعبيراً عن حلّ واقعيّ لهذا الصراعِ بينَ جانبينِ لا يوجدُ أدنى شكٌ في مدى مشروعيّة ادّعاءاتهِما في الوجودِ على هذه الأرض . لكن من جهةٍ أخرى ، فإنّ تَجربَتنا الطويلة في الرفضِ المُستمرّ لشرعيّة إسرائيلَ من قبلِ الأمةِ العربيّة والإسلاميّة بشكلٍ عام ، والشّعبِ الفلسطينيّ بشكلٍ خاص ، يثيرُسَخطَ الجانبَ الإسرائيليّ بل ويزيدُ الأمور تعقيداً عليه، فرفضُ الجانبِ الفلسطينيّ لفكرةِ وجودِنا هُنا كجزءٍ لا يَتجزّأ من هذه المنطقة يقودُ بالنهايةِ إلى الاستخفافِ برؤيتِنا للحّل. ولِتعلمَ جيداً بأن حجمَ تضحيتي لا يقلّ مقداراً أو شأناً عَن حجمِ تضحيتِك ، لذلكَ أقولُ لكَ بأنّي على أهبةِ الاستعدادِ للتضحيةِ في سبيل ضمانِ وحمايةِ مكانتي على هذه الأرضِ التي نتشاركُها معاً.
إنّ مفتاحَ الحلّ وإنهاءَ الاحتلالِ الإسرائيليّ مرهونٌ بإشعارالشعبِ اليهوديّ بوجودٍ أملٍ بأنّ الانسحابَ الإسرائيليَ الكاملَ من الضفة الغربية وقطاع غزّة كالتزامٍ اقليميّ سيرافقُهُ التزامٌ مُتبادلٌ من الجانبِ الفلسطينيّ ، التزامٌ يَتضمّنُ قبولَ واقتناعَ الفلسطينيين بالضّفة الغربيّة وقطاعِ غزّة كدولةٍ فلسطينيّة، دونَ أن يُرافقَ هذا أيّ محاولةٍ من الجانبِ الفلسطينيّ للإضرار بدولةِ إسرائيل .
إنني أدركُ تماماً بأن قدراً كبيراً من كلاميَ الذي أوجههُ إليك يا جاريَ العزيز قد يكون وقعهُ شديداً عليكَ ،ولربّما يكون قاسياً بعضَ الشيء ، ففي الرسائلِ اللاحقةِ سأستخدمُ مُصطلحاتٍ مثل ” أرضِ إسرائيلَ ” – والذي أعتبرهُ مُصطلحاً عادياً في قاموسِ مُفرداتي – ،الأمرُ الذي قد يبدو لكَ وكأنهُ إهانة ، وهوَ أمرٌ لَم أقِصدُهُ أبداً في هذه الرسائلِ. إنني أبعثُ لكَ بهذهِ الرسائلِ وكلّي أملٌ بأن يقرأها أحدٌ من الجانبِ الآخر للجدارِ الفاصلِ ويردُّ عليّ برسائلَ مماثلة. إنني أكتبُ وكلّي أملٌ بأن أتوقّفَ عن مخاطبتكَ كانسانٍ مجهولِ الهويّة لي، وأن أراكَ وأخاطبكَ كانسانِ معروف الهويّة و يمتلكُ صوتاً واضحاً ليعبّر عن نفسهِ وقضيّته. وليكُن بمعلومِك بأني سأتقبلّ بصدرٍرحبٍ ردّك على رسائلي مهما عبرّت فيه عن غضبكَ وسَخَطِك ، فحتى هذه اللحظة لَم نُفلح أنا ولا أنتَ في حلّ هذا الصّراعِ رغم اتّباعِنا لشتّى السُبُل ، على العكس تماماً ، فقد جلبَت تلكَ السُبلُ الموتَ والدمارَ لكلا الجانبين . لذلك دعنا نَسلُك طريقَ الحوارِ ولنستكشِف معاً ماذا سيجلبُ لنا هذا الطريق.
لهذا يا جاريَ العزيز ، ها أنا ذا أدعوكَ إلى عالمي الروحيّ ،على أملِ أن يأتيَ ذلكَ اليومُ الذي سنتمكّنُ فيه من استقبالِ بعضِنا بعضاً في عالمِنا الماديّ على أرضِ الواقع.
أنا أدعو كل فلسطيني بالإضافة إلى الآخرين من أنحاء العالم العربي والإسلامي أن تكتبوا لي, هنا او في صفحتي, ردا على أي مسألة أثيرت في هذا الكتاب وسأحاول أن أرد على كل رسالة بروح المشاركة, مهما كان التّحدي.