الانقسام الغير ثقافي‎

تخوض اسرائيل حاليا نقاش غير مثقف بشكل خاص حول حدود الحرية الثقافية. تبادل الاتهامات القبيح بين وزيرة الثقافة المعينة حديثا، ميري ريجيف، وبين أنصار الحرية الفنية يستمر لتوفير ترفيه مشكوك فيه الذي لا يتطابق ابداً مع أي تعريف تقليدي للثقافة وفي الاساس، قد لا يملك شيئاً من الثقافة إطلاقاً. أكثر من أي شيء آخر، هذا الوضع المعقد اللا متناهي على ما يبدو هو دلالة على الانقسامات العميقة – السياسية, الدينية, الوطنية, الاقتصادية والاجتماعية – التي تعكس انهيار تدريجي للترابط المعياري للمجتمع الإسرائيلي، وتؤدي إلى غياب حضاري الذي سريعاً ما سيقوم بتمزيق البلاد.

هذا الانعكاس المنشق لاسرائيل يصرخ لأكثر من إعادة تأكيد بسيط على حرية الإبداع الثقافي أو إعادة صياغة مبادئ توجيهية لتمويل المؤلقين، المخرجين والفنانين. ويدعو إلى صياغة أخلاقيات تعدد الثقافات التي تعكس التنوع الأساسي للمجتمع الإسرائيلي.

بدأ أحدث تكرار لثقافة الحرب الجارية بين اسرائيل والجهود الرسمية لحظر إنتاج مسرح الميدان ‘وقت متوازي’, مسرحية مستوحاة من تجارب السجن لوليد دقة، الذي سجن لتورطه في خطف وقتل موشيه تمام في عام 1984 (تم إيقاف تمويل بلدية حيفا للمسرح لأكثر من شهر وقامت وزارة الثقافة بتجميد الإعانة المالية له في انتظار التحقيق في مصادر دعم المسرح).

ولقد اشتعل ذلك اكثر جراء محاولة لنزع تمويل مسرح المينا للاطفال ومقره مدينة يافا الذي أسسته جدعونا راز وزوجها، نورمان عيسى، بسبب رفضه الأخير للأداء خارج الخط الأخضر. وأعقب هذه الخطوة دعوة (ناجحة) إلى سحب الفيلم الوثائقي عن قاتل رئيس الوزراء الراحل اسحق رابين، يغئال عمير، من مهرجان السينما الإسرائيلي المرتقب. لقد رافقت ذلك احتجاجات ضد حرية التعبير من خلال تهديدات لإزالة التمويل الحكومي للإنتاج المثيرة للجدل، مع انخراط جميع الأطراف المعنية في مساجلات مريرة لا تعمل الا على انحطاط الخطاب الثقافي الذين يزعمون انهم يسعون للحفاظ عليه.

مجرد أمثلة قليلة قابلة للطباعة قد تكفي. لقد اوضحت وزيرة الثقافة ريجيف أن الاعتبارات السياسية هي الراجحة في مخصصات التمويل (“تلقينا 30 مقعداً وانتم لم تحصلوا الا على 20”)، وأنها لا تحترم فناني إسرائيل كمجموعة (التي وصفتهم ب-“ناكري الجميل” و”ضيقي المؤخرة” في مقابلة في مجلة اّت للمرأة). ألمح الكاتب المسرحي والممثل عوديد كوتلر أن خلف المقاعد الثلاثين التابعة لليكود والتي حصل عليها في الانتخابات الأخيرة يقف “قطيع من الأبقار” الذين يستهلكون الشوفان الثقافي المرير – مما ألقى انتقادات من قبل جميع مؤيدي الحكومة الحالية. اسف بعض الفنانين الآخرين على البيان الفظ للوزيرة وأتباعها. العينات التافهة – بحث عابر الذي ادى الى لغة متكررة منتشرة بقدر مساو تقريبا من قبل أنصار ومعارضي حرية التعبير على حد سواء – تدفن ما تعتبر مناقشة موضوعية حيوية تحت كومة من إسهاب الهجوم الذي لم تترك أحدا سالما.

إمعان النظر في خصائص الخطاب الثقافي السائد امر بناء للمناقشات بشأن المسائل الأخرى كذلك. أولا، يتميز الخطاب العام من خلال هيكله الثنائي الحاد. في كل قضية ينقسم الجانبين بين “نحن” و “هم”. تتحدث ميري ريجيف باسم شريحة مقموعة من السكان (معظمهم من اليهود الشرقيين واليهود القوميين والتقليديين دينيا الذين يقيمون في المناطق الهامشية) ضد نخبة ثقافية غامضة مع ميول يساري بحيث من المفترض أن تكون معتدلة علمانيا وليبرالية، ومتمردة من تل أبيب. هذا التداخل الصارخ للانقسامات يردد الأنماط التي احتلت الصدارة في الانتخابات الأخيرة (انظر الى شعار الليكود: “إنه إما نحن أو هم” أو شعار المعسكر الصهيوني: “إما نحن أو هو”)، وسلط الضوء عليها من قبل بيانات إقصائية هادفة مثل نداء بنيامين نتنياهو سيئ الصيت لناخبيه للتوجه إلى صناديق الاقتراع اذ ان “العرب يسارعون في قافلات إلى صناديق الاقتراع يستقلون حافلات من تمويل المنظمات اليسارية”.

ثانيا، وبالتالي، أقل أهمية ما يقال مِن مَن يقول ذلك. ممثل يطالب بترخيص إبداعي هو بالتعريف يهودي كاره لنفسه. مجتمع ديني يطالب بالتواضع على خشبة المسرح موصوف على الفور كقومي مفرط وجاهل. الربط السريع بين الموقف الفكري والانتماء الاجتماعي، عن طريق إدخال جرعات كبيرة من التعصب في المحادثة، جعلت المناقشة الجدية مستحيلة عمليا.

ثالثا، ليس من المستغرب بعد أن هذه الميزات عززت مناقشات ذم وشاتمة شخصية للغاية. لقد اّلت الخلافات على المناصب حتما إلى هجمات على الأشخاص الذين وضعوهم في الواجهة.

لقد اقترن هذا التخصيص في حالة غياب لا تصدق لضبط النفس اللفظي مما ادى إلى مناخ مواجهة علنية ​​في المجال العام. الطبيعة العدائية للحياة المعاصرة في اسرائي واضحة في كل مكان. في الاقتصاد كما في الثقافة، في السياسة كما في الدين، في العلاقات العرقية والتفاعلات الوطنية, قد قسمت إسرائيل بشكل عميق – غير مرتاحة كثيرا مع ما اصبحت عليه وغير متيقنة حول ما ترمز إليه – ووضعتها على مسار تصادمي مع نفسها.

ما فقد إلى حد بعيد هو الشعور بارضية مشتركة – كما الديمقراطية مع إصرارها على التمسك بقواعد متفق عليها لتنظيم الخلافات حول القضايا الرئيسية التي تحولت الى سلعة حزبية اخرى في المعركة على هوية إسرائيل. وبالتالي، إن الانحطاط الحالي في الخطاب الثقافي لا يزود اكثر من نسخة من غياب الكياسة التي تتخلل كل زاوية من وجود إسرائيل والذي لا يمكن تصحيحه الا من خلال جهد جدي وواعي لإعادة صياغة جوهر المواطنة في إسرائيل تمشيا مع حقائق القرن 21.

نقطة البداية لمثل هذا التعهد تكمن في الاعتراف البديهي بأن قوة إسرائيل تكمن في تنوعها. قبل فترة طويلة جدا، لقد بنى الاستقطاب السياسي المدعوم بالفوارق الاجتماعية جدران فصل التي، في الآونة الأخيرة، كانت معربة بوضوح وبقوة في المجال الثقافي. الخطاب المحيط بهذه المناقشات، يستمر من خلال قلة الاحترام ذاتها لتوسيع الفجوات التي لا تؤدي إلا إلى تفاقم هذه التوترات. اليوم، كما في الماضي، الجهود الرامية إلى فرض التوحيد في هذا السياق الغير متجانس إلى حد كبير, مصيرها الفشل. تقع الوحدة في هذا السياق، أكثر من أي وقت مضى، على بناء مبادئ لمجتمع مشترك والتي تأخذ بعين الاعتبار العديد من العناصر المتنوعة الاجتماعية والاقتصادية والدينية والسياسية وتعزز مفاهيمهم في الفكر والعمل.

ان الخطاب المقسم الذي يعكس اسرائيل المعاصرة لا يبنى لاستيعاب مثل هذه العملية الملحة، الأمر الذي يتطلب قبل كل شيء إعادة التأكيد على قيمة التسامح والتي بدونها, يمكن للتعددية إسرائيل الأساسية أن تؤول بسهولة إلى معركة ضارية بين وجهات نظر بديلة. يتطلب هذا احترام الآخرين ولكن بالكاد طمس ذاتي طوعي: لا يمكن للاشكناز أن يصبحوا شرقيين، ولا ينبغي أن يتوقع من العرب تبني الهوية اليهودية، يمكن للإسرائيليين العلمانيين ان يبقوا يهودا دون أن يتحولوا الى متدينين وأرثوذكس, ويمكنهم تعزيز القيم العائلية دون أن يتحولوا إلى معادين للمثولية. في السياق نفسه، لا يتوجب على أنصار الحرية الثقافية الاصرار على تقبل الجميع لأعمالهم، ولا يمكن للمستوطنين اجبار معارضي الاحتلال على شراء منتجاتها.

على هذا الأساس لتعددية متسامحة قد يكون من الممكن التأكيد على القيم للحرية الشخصية والجماعية, وعلى المساواة والعدالة المتأصلة في الموروثات الاسرائيلية العالمية واليهودية والبدء في عملية تجديد لمساحات مدنية مشتركة في البلاد. ان الخطاب لمثل هذه المؤسسة في متناول الجميع. ما مطلوب من القيادة هو البدء به والمحافظة عليه، فضلا عن الالتزام به والعمل على انجاحه.

عن الكاتب
برفيسور نيعومي خازان نائبة رئيس مجلس الكنيست سابقا وعميدة مدرسة المجتمع والحكم في كلية تل ابيب يافا
تعليقات