إرتباط الأمن الغذائي بين الدول وتأثيره على شرعية الحكومات

يشكل الخبز ثلث السعرات الحرارية التي يتناولها الفرد المصري يومياً، وينفق البلد حوالي 39% من الدخل على الغذاء (مقارنةً بإنفاق اليمن 45%، والأردن 41%، وليبيا 37%، والعراق 35%، وإسرائيل 17%).

وكان لتضاعف أسعار القمح العالمية من 157 دولاراً للطن المتري في حزيران 2010 إلى 326 دولاراً في شباط 2011، أثراً كبيراً على إمدادات الغذاء وتوفّره في مصر. وبنفس الوقـت، تأثر محصول القمح في العالم عن طريق تغيير أنماط الطقس عام 2010، والتي أدّت إلى نقص إمداداته. وقد شهدت الصين حالة من الجفاف الشديد في المنطقة الشرقية (المتنامية سكانياً) في تشرين الثاني من نفس العام. وقد أدّت المخاوف من تلاشي المحاصيل وشبح المجاعات التاريخية (والتي كان آخرها أعوام 1958-1961) لشراء الحكومة الصينية القمح من السوق العالمية للتعويض عن الخسائر الناجمة عن الجفاف. وبما أن ما نسبته 6 إلى 18% يتم تداوله من إنتاج القمح العالمي السنوي عبر الحدود، فإن أيّ انخفاضٍ في إمدادات القمح العالمية يؤدي إلى ارتفاعٍ حادّ في أسعاره، وهذا، بدوره، يشكّل خطراً استراتيجياً محدقاً على بلدٍ مثل مصر (وهي أكبر مستورد للقمح في العالم، بمقدار 9.8 مليون طن متري في العام 2010، وثامن أكبر مستورد له، إذا ما قسّمنا كميات الاستيراد على عدد السكان).

تعطينا حالة الجفاف الشديد للعام 2011 في بقعة جغرافية معينة من الصين (معروفة باعتمادها على زراعة القمح) مثالاً استراتيجياً حيّاً، على كيفية تسبّب حدثٍ محلي ما (التغيّر المناخي في شرق الصين) بأخطار اقتصادية وسياسية—على الصعيدين الإقليمي والدولي. كما وساهم احتمال تلاشي الأمن الغذائي (محصول القمح)، وفي نفس البقعة الجغرافية، في سلسلةٍ من الإجراءات الحكومية أثّرت، هي الأخرى، على الأوضاع الاقتصادية والسياسية في مناطق أخرى من العالم؛ إذ ساهمت إجراءات الحكومة الصينية في محاولتها للتخفيف من آثار الجفاف (كالإستثمار بحوالي 1.9 مليار دولار أمريكي في بنية تحتية جديدة للمياه، وشراء القمح من الأسواق العالمية) إلى زيادة تكلفة القمح على الدول المستوردة.

هذه الصلة الاستراتيجية تبرُز، وبشكلٍ خاص، في مصر (البلد الذي ينفق 3% من الناتج المحلي الإجمالي على دعم القمح) والتي شهدت “إنتفاضة الخبز” عام 1977، قُتل حينها 77 شخصاً، و”مظاهرات الخبز” عام 2008. فأيّ ارتفاعٍ في أسعار القمح سيؤثر سلباً على تكلفة وتوفّر الخبز في مصر، وهذا بالتالي يؤجّج احتجاجات المواطنين، ويؤدي، بشكلٍ غير مباشر، إلى بروز مخاطر سياسية لأيّ نظامٍ حاكم، مهما كان أداؤه السياسي أو الاجتماعي.

تبرز لنا هذه السلسلة من الأحداث والإجراءات كيف أدّت فعالية الحكومة (أو عدمها) وفي اثنين من الأنظمة السياسية (الصين ومصر) إلى نتائج عكسية، كما وتعكس لنا كيف أنه—في عالم اليوم، المترابِط والمعولَم—يمكن لأخطار الطبيعية أن تؤثر على النظام الاقتصادي (التكلفة والأسعار)؛ والسياسي (استقرار الحكومة وشرعيتها) ، والبشري (أمنهم الغذائي)، على نطاقٍ واسع (محلي، وإقليمي، ودولي).

إن تأثير الأخطار المناخية على إنتاج القمح (2010-2011) يعطينا حالة مذهلة لكيفية ترابط الكوارث، والأمن الغذائي، وسلامة الاقتصاد، والاستقرار السياسي، بعضها ببعض. وحيث أن الاحتجاجات السياسية (بما أطلق عليها “الربيع العربي”) انتشرت أيضاً في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، من المثير للاهتمام النظر إلى النسبة المئوية من الدخل التي تُنفَق على الغذاء، ومتوسط العمر في أكبر البلدان المستوردة للقمح في العالم. عندها، يلاحظ المرء، على الفور، أن من ضمن أكبر عشرة مستوردين في العالم هي تسع دول شرق أوسطية (سبعة منها شهدت احتجاجاتٍ سياسية—بعضها أدت الاحتجاجات فيها إلى مقتل مدنيين عام 2011). وتنفق الأسر، في هذه البلدان، التي تعاني من الاضطرابات السياسية، في المتوسط أكثر من 35% من دخلها على المواد الغذائية. وهذا يتناقض بشكلٍ صارخ مع دولٍ متقدمة، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، اللتين يصل إنفاق أسرها على الغذاء إلى أقل من 10% من دخلها. وهذا يعكس اعتمادية الدول العربية على استيراد المواد الغذائية وهشاشتها أمام تقلّبات أسواق السلع العالمية.

لقد زاداد الضغط على أسعار الخبز المحلية في المنطقة إبّان تضاعُف أسعار القمح عالمياً، مما زاد من الاستياء الشعبي من بعض الحكومات العربية. فتضافرت خصائص هشاشة بعض الدول العربية (واردات عالية للسلع، ومستويات منخفضة من دخل الأسر، ونسبة عالية من المداخيل التي تنفق على الغذاء) لتؤثر على أمنها الغذائي والاجتماعي. إلا أن اثنين من بلدان الشرق الأوسط لم يشهدا أية احتجاجات (إسرائيل والامارات)؛ ذلك لأن لديهما دخلاً مرتفعاً للفرد الواحد، ونسبة منخفضة من الدخل التي تنفق على الغذاء، وفعالية وقدرة حكومية على التكيّف والتأقلم مع تذبذب أسعار المواد الغذائية وإمداداتها. كما يشكل النمو السكاني عاملَ خطرٍ إضافياً: فبينما يبلغ متوسط العمر في الصين 34.2 سنة، فإن أكثر من نصف السكان في العديد من دول الشرق الأوسط و شمال إفريقيا هو تحت سن الخامسة والعشرين.

ويعدّ الفقر من عوامل المخاطر الاستراتيجية الأخرى: ففي الصين، انخفض معدل الفقر إلى 13% على مدى السنوات الثلاثين الماضية، في حين قُدّرت معدلات الفقر الرسمية في مصر بنسبة 25% على الأقل (2010-2011). علاوةً على ذلك، تملك الصين 3 تريليون دولار من الاحتياطيات الأجنبية، والتي تمكّنها من إنفاق القدر المطلوب على السلع (وفي هذه الحالة، القمح)، أو الاستثمار في إجراءات وتدابير ضرورية وملحّة من أجل التخفيف من وطأة الجفاف في المناطق المتضرّرة. وفي المقابل، كان النظام المصري أقلّ قدرةً على إدراك وتلبية الاحتياجات الأساسية لمواطنيه وصون أمنهم الغذائي.

عن الكاتب
إقتصادي ومحلل سياسات من الأردن. عمل في كل من رئاسة الوزراء الأردنية، والبنك الدولي بواشنطن، ومعهد كاتو للفكر والأبحاث بواشنطن، وسلطة منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة. وقد تم اختياره كأحد أفضل محللي الاقتصاد والسياسات العامة في العاصمة واشنطن من قِبَل معهد التراث للفكر والأبحاث الأمريكي. وهو حاصل على درجة (تشارلز كوك) للزّمالة والفكر لعام 2005. فادي حدادين حاصل على درجة البكالوريوس في الاقتصاد من الجامعة الأمريكية ببيروت، وشهادتي ماجستير من كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية (في التنظيم الاقتصادي) وجامعة شيكاغو الأمريكية (في السياسة العامة). كما وأنهى حدادين شهادتين تنفيذيتين من جامعتي هارفارد وبرنستون الأمريكيتين. ظهر فادي حدادين كمحلل اقتصادي واستراتيجي لقنوات الجزيرة، والبي بي سي عربية، وسي إن بي سي عربية، والحرة، والتلفزيون الأردني. كما تم نشر مقالاته وآرائه في عدة صحف ودوريات إقليمية وعالمية. أما فيما يتعلق بالريادة في القطاع الخاص، فقد أنشأ في عمّان، الأردن، سلسلة من المطاعم السياحية.
تعليقات